"الإيقاع الأبدي": تاريخ الموسيقى منذ كان كلُّ شيء صامتاً

2023-09-09

جعفر العلوني

يعترف مايكل سبيتزر، عازف البيانو وأستاذ الموسيقى في "جامعة ليفربول"، في مُقدّمة كتابه "الإيقاع الأبدي"، الذي صدرت ترجمتُه الإسبانية حديثاً عن دار "أرييل"، أنّه استوحى فكرة الكتاب من فيلم "دونكيرك" (2017) للمُخرج البريطاني- الأميركي كريستوفر نولان، حيث تُروى أحداثه من ثلاثة منظورات؛ البر والبحر والجوّ. وقد استفاد سبيتزر من هذه الفكرة كي يفرز المحتوى الضخم والوفير لموضوع كتابه الذي يشمل العلاقة بين الإنسان والموسيقى منذ بداية الزمن، وصولاً إلى الانفعالات والمشاعر التي تثيرها فينا اليوم.

ومن أجل ذلك، قسّم الكتاب إلى ثلاثة هياكل رئيسية؛ الأوّل، ركّز فيه على المدّة الزمنية التي تستمرّ فيها حياةُ الكائن الإنساني، وعلى الطريقة التي تدخل فيها الموسيقى إلى هذه الحياة؛ سواء في أوقات الفراغ أو العمل أو أي شكلٍ من الأشكال. والهيكل الثاني ركّز فيه على حضور الموسيقى في التاريخ العالمي، مع سرد للأساطير المؤسِّسة للموسيقى في مختلف الحضارات والشعوب، وليس فقط في الغرب كما جرت العادة.

أمّا الهيكل الثالث، فقد تناول فيه الجانب التطوّري للموسيقى، وهو السبب الذي جعل أشباه البشر يقودونها، وفي الخلفية الحيوانات، حيث يأسف سبيتزر من أنّ الدراسات في مجاله لم تُولِ "موسيقى الحيوانات"، التي قد تتراوح من أصوات القرود إلى المشاعر العديدة الموجودة بينهم، الاهتمام الكافي.

هكذا، بهدف تقديم رؤية بانورامية لدَور الموسيقى في حياة الإنسان، يكشف الباحث البريطاني عن هذه البنية المعقّدة المليئة بالارتباطات بموضوعات متنوّعة، من علم الأعصاب إلى فلسفة الألماني تيودور أدورنو. وبالتالي، في بعض الأحيان، قد يشعر القرّاء بالارتباك إلى حدّ ما بسبب الصعود والهبوط والعدد الكبير من الإشارات إلى رموز وشخصيات وأنواع موسيقى مختلفة؛ مثل "أغاني الكريتيس" أو أغاني "كارناتيك الهندية"، أو "أعمال بيتهوفن"، أو أغنية "فوق قوس قزح" التي غنّتها جودي غارلند، أو الحكايات الموسيقية المتعلّقة بالحياة الشخصية للمؤلّف.

يبدأ سبيتزر من الموسيقى الكونية للأفلاك، ويُشير إلى كيفية ارتعاش الكائنات الحيّة الأكثر بدائية عند سماع الأصوات. ثمّ بعد ذلك يُدرج اللغات الموسيقية الأوّلية للإنسان العاقل، ويتساءل عمّا يجعلها مختلفة عن تغريد الطيور أو صيحات قرود الجيبون. ثمّ بعد ذلك يتتبّع الانتشار والتطوّر الموازي لكل الموسيقى على هذا الكوكب، مركّزاً بشكل أساسي على تفتّت الموسيقى الغربية بسبب استخدامها كوسيلة للتفوّق الأبيض. ويتابع عازف البيانو سارداً المزالق التي اصطدمت بها الموسيقى حتى عام 1877، عندما اخترع توماس إديسون الفونوغراف، على سبيل المثال، لم تكن هناك موسيقى مُسجَّلة. كذلك سنتعرّف في الكتاب على أنَّ أقدم تدوين موسيقي يوناني يعود إلى عام 500 قبل الميلاد، وقبل ذلك التاريخ كان كلُّ شيء صامتاً.

ويُخصّص سبيتزر جزءاً كبيراً من صفحات الكتاب يَذكر فيها الخراب الذي أحدثه الاستعمار الغربي عبر حجب القيمة الفنّية لموسيقى الشعوب والمجموعات العرقية الأُخرى، ويستطرد في شرح؛ ليس الاستعمار العسكري الذي مارسه الغرب على الشعوب، بل الاستعمار الموسيقي الذي حجب الضوء عن إيقاعات وألحان شرقية وأفريقية، فبدلاً من استخدام الموسيقى كوسيلة للتواصل بين الشعوب والثقافات، قام الغرب، لمصالح اقتصادية وسياسية، بمصادرة هذه الموسيقى والتعتيم عليها.

لا شكّ أنّ الباحث البريطاني يقدّم لنا في كتابه رحلة محفّزة حول علاقة الإنسان بالموسيقى، والتي كما يقول "ساهمت في تطوّرنا الحضاري"، وقد استطاع سبيتزر أن ينسج هذا العمل بطريقة مثيرة، وذلك من خلال أسلوبه اللغوي الذي قام على أساس طرح الأسئلة والإجابة عليها، لكي يوضّح للقرّاء العديد من المفاهيم المرتبطة بعلاقتنا مع الموسيقى، بدءاً من الطفولة ووصولاً إلى سنّ الشيخوخة والموت الذي يُعرّفه الكاتب بأنّه "موسيقى من نوعٍ آخر".

كاتب ومترجم سوري مقيم في إسبانيا








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي