رواية «الاحتلال» لآني إرنو: الكتابة التي تحررنا من الاحتلال

2023-09-07

رامي أبو شهاب

تشكل جائزة نوبل للآداب مصدراً من مصادر الوعي بالكتابة التي تنتمي إلى العالم، ومع ذلك فإن النموذج المعياري للتوافق حول أحقية هذا الكاتب أو ذاك ـ بالنسبة إلى البعض قد يبدو إشكالياً – إذ يتحدد تبعاً لمرجعيتنا الثقافية والذائقة، وفي بعض الأحيان إلى المواقف أو التوجهات السياقية، غير أنّ الروائية الفرنسية «آني إرنو» تبقى جزءاً من المشهدية السردية العالمية تبعاً لموقفها الأخلاقي، بالإضافة إلى تغاير النمط الذي تنطلق منه في تكوين عالمها السردي، الذي ينهض على لوحات سردية متعددة الأبعاد، إذ تمتزج فيه اللغة بالفلسفة والعمق بالجمال، كما التعبير عن الوعي الإنساني بأبعاده المعقدة، بالإضافة إلى رصد التفاعلات الدقيقة بين الذات والمحيط، غير أنّ الذات تبقى مكمن الجدل، ولا يمكن التعبير عنها إلا بلغة تعي موقعها في الرواية.

الوظيفة السردية

في روايتها بعنوان «الاحتلال» – الصادرة بنسختها العربية عن دار الجمل في بيروت، ترجمة إسكندر حبش – تعمد آني إرنو إلى تشكيل خطابها السردي عبر الذات في نصّ يتسم بالاختزال والتكثيف، حيث تتخفف من معالجة البيانات السردية ذات الطابع التفصيلي المحيط بالشخصيات، كي ينصب اهتمامها على العوالم الداخلية لشخصية مركزية تستأثر بالخطاب، بالتضافر مع محاولة رسم الفضاءات السردية بغية تحقيق أكبر قدر من الوعي بالأنا التي تعاني من أزمة اختيار أو قرار.

يلاحظ في الرواية القدرة على الانطلاق من الذات، التي يمكن أن نطلق عليها الذات الصغرى، أو الذات الداخلية، فيتكون العالم السردي في تلك الأنا التي تعي ذاتها لتبدو كل الأشياء المحيطة بها جزءاً من عالمها، ولكن في مواجهة عوالم أخرى، نتيجة تجربة طارئة، أو مرحلة انتهت بقرار من الأنا؛ ولذلك نجد أن الرواية تبدأ من فعل انتهى، أو مضى، ومن ثم تتشكل المواقف بوصفها ردة فعل على هذا الحدث الذي ينتج جملة من التداعيات. يبرز هذا القرار عبر تحليل سردي أقرب إلى وحدة وظيفية ضمن مقولة التحليل المورفولوجي للحكاية، تبعاً لفلاديمير بروب، إذ يحدث الانفصال ، أو تتطلب وظائف سردية أخرى، ومنها الإساءة كما فقدان التوازن، ما يدعو إلى توليد وظيفة أخرى تتصل بعملية البحث للعودة إلى قيمة التوازن مرة أخرى.

تنفتح الرواية على قرار انفصال بين امرأة وعشيقها، الذي تُكني عنه بحرف دبليو باللغة الإنكليزية، في حين كان الانفصال جزءاً من اتفاق بينهما على أن يستمرا في اللقاءات بوصفهما صديقين. لقد تحدد قرار التخفف من هذه العلاقة، رغبة في استعادة الحرية التي قيّدها زواج سابق استمر لثماني عشرة سنة، ولعلنا نلاحظ تواتر الوصل والفصل في العلاقتين، بغية إيجاد مساحة للذات، غير أنّ القرار الأخير بدا باعثاً على توليد وظيفة اضطراب على المستوى النفسي، فبمجرد أن يتحقق الانفصال، وتعلم هذه المرأة بأن الرجل بدأ علاقة مع امرأة أخرى نشهد انعطافة واضحة تتجلى على شكل بوح سردي تأملي معظمه يتصل بالآخر (المرأة الجديدة ـ العشيق) ما يقود إلى تشكل ثنائيات الذات والموضوع: المرأة والمرأة الأخرى- المرأة والعشيق.. على الرغم من أن (المرأة) تعدّ قاسماً مشتركاً في هذه الثنائيات، غير أنها تشعر بأنها تقع خارج هذين التكوينين؛ بمعنى أنها أمست خارج المعادلة، ما يعني نوعاً من الفزع والوحدة، أو التوهان في العالم، كما يأتي في الرواية.

اللغة والاحتلال

يكمن التعبير عن الآخر داخل الرواية عبر الكتابة، أو اللغة التي تسعى إلى تلمّس الذات الغائبة (المرأة العشيقة الأخرى) التي تنتمي إلى الواقع الخارجي، فتلجأ إلى صيغ التعبير عنها، على مستوى الوعي بغية التخفف من الأزمة، فالكتابة تحررها من الاحتلال، أو كما تصف بأن الكتابة لا تختلف عن عملية غرز الإبر، وهنا نلاحظ أن هذه المرأة (الراوي) قد أصبحت مهووسة بالرغبة في التعرف على المرأة الأخرى، أو العشيقة الجديدة، ومن ثم تصف لنا كيف أنها أصبحت محتّلة من قبل تلك المرأة، التي لم تتمكن من تجاوزها، كونها أصبحت الأولى بينما هي الهامشية، وهكذا تقترب من إدراك الغيرة التي أطلقت كل هذا الجنون.

تبدو الشّخصيات مطموسة الدلالة على مستوى العلم، فلا أسماء للشخصيات تأسياً بمنطوق الرواية الجديدة، غير أنّ هذا التعتيم أو حجب العلمية يتصل بمحاولة تجريد الذات لغوياً، بالتوازي مع اختزال الوعي الذي يتعلق بوجود غير متعيّن بمقدار ما يعني أثره على المستوى الوظيفي أو اللغوي، فالآخر لا يعني شيئاً سواء أكان (س) أو (ص)، أو غريبا في كل الأحوال، غير أنّ قيمته تكمن في وظيفته التي تتصل بتخليق أزمة الذات. تبدو الجمل السردية معنيّة برسم مناخات أو محاولة الإجابة عن سؤال واحد تتفرع منه أسئلة أخرى، وكلها تُعنى بمن يحتل الذات: من هي تلك المرأة؟ فالإكراهات النفسيّة تبدو معنية بالرغبة في معرفة الآخر (الذات التي تتملك)، أو ما كانت امتلكه، أو ذلك الذي تملّك شيئاً كنت أملكه.. والآن لم يعد متاحاً لي. ومن هنا، يمكن تفسير الجملة السردية التي افتتحت بها الرواية وتتصل بفعل القبض على عضو الرجل، الذي يأتي كناية عن تعلق المرأة الذي يجنبها أن تتوه في هذا العالم، إذ تكشف هذه الجملة السردية على الرغم من إيجازها مدى تعقيد الموقف في بناء علاقة المرأة مع الرجل، أو ذلك الالتباس بين الحاجة كما التملك، ومعنى الأنا.

مبدأ التملك

ولعل هذا يقودنا إلى جدلية اختبار الأنثى في علاقتها مع الرجل، ومع الآخر (المرأة الأخرى) ضمن حساسية جديدة لاكتناه ما يكمن في عمق الذات النسوية من رغبات تتصل بتعقيد مفهومها لقيم الرغبة، كما الامتلاك السيطرة.. فهل يكون الاحتلال من قبل المرأة الأخرى جزءاً من حضور الآخر الذي استلب ذاتاً أخرى كنت أتملكها؟ لعل هذا ما يبرر قيمة الفراغ، حيث جاء في الرواية: «بدأت أتعذب من افتراقي عنه، عندما لا أكون محتلة من قبل المرأة الأخرى، أصبح عرضة لهجات عالم خارجي يستبسل بتذكيري بماضينا المشترك، هذا الماضي الذي يملك اليوم حس خسارة لا يمكن تعويضها. تسعى الكاتبة إلى أن تجعل الذات أو الرجل (موضوع الصراع) جزءاً مادياً في بعده الآخر، فتتحدث عن تملك جسده، وشعورها بهذا الجسد الذي بات الآن في حضرة امرأة أخرى، ومن هنا تستثمر الرواية جزئية الرجل بوصفه وجوداً يقع بين كيانين أنثويين أو كيانين متعارضين، كلاهما يمتلك الرجل، في حين أن المرأة الأخرى تحتل وعي العشيقة السابقة، بل تسيطر على تفكيرها، وتدفعها إلى تصرفات لا تعتقد بأنها كانت يمكن أن تقوم بها في الماضي، فلا عجب أن تشرع في رحلة بحث عن المرأة في الشوارع ، ودليل الهاتف، وأماكن العمل، مع محاولة معرفة اسمها، حتى أنها تتخيل أن كل امرأة تحضر أمامها في المقهى أو الشارع قد تكون تلك المرأة. وهكذا تبدو الذات أكثر رخاوة مما نعتقده، ولاسيما حين تواجه فوضى إدراك ماذا تريد من هذا العالم، مع بيان مدى هشاشة إحساسنا حين نفقد شيئاً، فيطفو الفراغ، غير أن وجود المرأة الأخرى يثير طاقة، أو مصادر إبداع، حيث جاء في الرواية: «ملأت تلك المرأة تفكيري، صدري بطني، كانت ترافقني أينما ذهبت، تملي عليّ عواطفي، في الوقت عينه جعلني حضورها غير المنقطع، أعيش بشكل مكثف. كانت تثير حركات داخلية لم أعرفها من قبل، تثير فيّ طاقة ومصادر إبداع لم أكن أؤمن بأنني أجيد القيام بها، كانت تبقيني في نشاط محموم وثابت. كنت، بالمعنى المزدوج للكلمة، محتّلة.

تتميز الرواية بقدرتها على اجتراح بناءات سردية مختزلة جدا، غير أنّ القيمة الجمالية في الرواية تتحدد في تلك الجمل والمقاطع الرخوة شعورياً، التي تعكس حالة نفسية عميقة، فتشيع الحوارات الداخلية، مع غياب واضح للحوار الخارجي، في ظل غياب حقيقة الآخر واقعياً. يبدو أن الاحتلال جعل الذات خارج تفاهة الحياة اليومية، بما في ذلك الأحداث السياسية، ولهذا فإن جمالية كتابات آني إرنو تتلخص بقدرتها على أن تجعل من اللغة فعلاً كاشفاً عن الذات، فهي تساعد على أن نقف ملياً كي نتأمل، ونستوعب ما يتبلور في داخلنا من وعي، ولهذا يبدو إيقاع السرد متوازناً بعيداً عن الاضطراب؛ فيشيع في الرواية مناخ دافئ، وحميمي، يدفع عن المتلقي الشعور بأي مساحات أو فجوات قد تفصله أحياناً عن ملاحقة إيقاع السرد، مع محاولة الاستمتاع بمعانقة هذا النوع من الكتابة في رواية لم تتجاوز (70 صفحة)، ما يجعل من كتابات إرنو في خانة الكتابات المختلفة عن السائد أو المتفردة، فهي لا تشبه نماذج سردية كثيرة، وتتقصد أن تكون صاحبة موقف ابتكاري على مستوى السرد، وهذا يصدر عن رؤية تتصل باختبار العالم ضمن معادلة وعي هشاشة الذات، وخوائها.

قد يبدو هذا السّرد المغاير جزءاً من معادلة الحيثيات التي قادت إلى منحها هذه الجائزة، فثمة – في هذه الحالة – نأي من قبل لجنة نوبل عن شبهات الأيديولوجيا التي وسمت بعض الكتّاب الذين حصلوا على الجائزة نتيجة مواقفهم السياسية أو الأيديولوجية، ومع ذلك فإن إرنو بدت منحازة إلى العدالة، بما في ذلك القضية الفلسطينية، فكتاباتها تخلو من المواقف المباشرة، في حين تميل إلى الانغماس أو ممارسة ظلال الكتابة، التي تتيح إمكانيات تعبيرية، فالمقاربة التي تعتمدها في التعبير عن أفقها، وآرائها لا يدفعها إلى اختزال صيغ العالم فحسب، إنما تُعنى بالتجربة عينها، لا بما تتقصده أيضاً من دلالات مباشرة، إنما تبحث في قلق الآني، والمتزامن في الوعي، وأثره، علاوة على تلمّس تلك المفاصل التي تبدو لنا عادية أو مألوفة، بيد أنها غالباً ما تقود إلى التغيير، على مستوى الوعي بالذات، ولكن هذا الوعي لا يكتمل إلا عبر إذابته عبر كيان لغوي يعمد إلى مبادئ تشريحية لأزمة الذات التي لا تعرف الاستقرار، وفي بعض الأحيان قد تقسو على نفسها.

كاتب أردني فلسطيني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي