أدب الكنائس: سيمفونية الرهبنة البائسة

2023-09-04

ملاك أشرف

صادفتُ ذات يومٍ وصفا لرواية «الراهبة» للفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو، الذي كانَ أحد قادة النهضة التنويرية في القرن الثامن عشر، بعدَ أن درسَ الفلسفة ونالَ درجة الماجستير فيها، ثم ارتأى أن يكونَ رجل دين في الكنيسة، قيل إنه عاشَ بوهيميا في عقودهِ الأخيرة، واستندَ إلى مُؤلفاته الرصينة بشكلٍ أساس. أما وصف الرواية فجاءَ كما الآتي: « يقول المُؤلف على لسان سوزان سيمونان، بطلة روايته «الراهبة المُرهفة»: «أستطيع أن أغفر للبشر كُل شيءٍ إلا الظلم والجحود وانعدام الإنسانية». تُلخص هذهِ العبارة بشكلٍ ما الرسالة التي أراد المؤلف من خلالها نقلها للبشر.

إنها تعبر عن جوهر القيم التي آمن بها هذا المفكر الموسوعي الرائد في عصرهِ، والتي دعا إليها وناضل من أجلها كما فعل فولتير وروسو. لَمْ يبرح هذا المقطع ذهني وداخلي قط، بل ظل يُلاحقني لمُدةٍ، إلى أن قرأتُ مقالة دفعتني وقتها للعودة إلى تلكَ الرواية لفهمها وتحليلها كما يجب.

اللافت في المقالة المعنية هو أن كاتبتها تُعاني من مخاوف مُتجذرة من الراهبات نتيجة دراستها في مدرسةٍ دينية غريبة آنذاك، حيث توترت من الأردية السوداء الداكنة أو البيضاء الناصعة، ومضت تتخيل إحداهن تحمل عينا ثالثة للمُراقبة أو شيئا مُفزعا ومُرعبا سيظهر فجأة يوما ما، بالإضافة إلى راهبة فريدة يتحدثون عنها كافة، كانت تكتبُ شِعرا غامضا وفريدا، ما يعد سببا رئيسا لانطلاق الشابات في مجال الشعر وسطوة مُحببة على عالمهن البريء في ما بعد، كُل ما أتذكرهُ عن المقالة قد كتبتهُ على هذا النحو المُباغت والمُثير الآن!

نُقلت البطلة سوزان إلى دير سانت ماري، ديرها الأول، دون أن تدركَ فظاعة الأمر، ظنت أنها انفكت عن قساوة البيت والحزن الذي بثه بعض أفراد عائلتها، وسرعان ما يتم التفكير بشأنها والتخطيط كي تعودَ إلى البيت بهدوءٍ وسرور، كانت في السادسة عشرة من عُمرها حينئذٍ، ليست على درايةٍ كاملة بما يدور حولها، أو ليسَ لديها أدنى فكرة عن أجواء الأديرة المُختلفة من مدينةٍ فرنسية إلى أُخرى، كشفت عن سيل مشاعرها لرئيسة الدير بصورةٍ كاذبة، إذ حدثتها كم أنها فتاةٌ بائسة، مكروهة هجرها الجميع، ولم يكن سوى افتراء ناجم عن عقلية غير ناضجة عاطفيا، وأحاسيس مُضللة مُتقلبة، تُلائم مرحلتها العُمرية المُتخبطة والحساسة، التي تستجدي بلا شك الشفقة، التعاطف، الانتباه والتشجيع.

تجلت مواهب الراهبات الجليلة في مكرهن وخداعهن المُموه بالحنان والنعومة التعبيرية الزائفة؛ للإيقاع بالفرد بسهولةٍ وخفة في حِبال أمكنتهن الخانقة. عندما هدأت أكثر فأكثر شعرت بالشجن والأسف بعد ذلكَ، وكُل ما كانَ عليها أن تفعلهُ هو أن تتذكر المدائح والمُلاطفات المُنهالة عليها من هُنا وهُناك، تعبيرا عن جمالها وأناقة مظهرها المُتوهج المحبوب، في حين أنها تحس بمشاعر الخوف، الغيظ والثقل تتعاقب في أعماقِها وترسم ملامحَ مُتجهمة جديدة لها عنوة.

تدخلَ في قضيتها نسوة ماكرات دسسن في ضميرها ووجدانها جملة من الحقائق حولَ إفلاس أهلها وتخليهم عن الابنة غير الشرعية كقربان للدير؛ من أجل الغفران والتكفيرعن الخطيئة، بيد أنها قالت، إن الإنسان هو سيد مصيره وبوسعهِ التصرف فيه كما يشاء؛ لذا عزمت على مواجهة الاضطهاد والتخلص من الإكراه المدوي، الذي تورطت فيه عن طريق جهلها وشكوكها في محبة أُفراد أُسرتها، وما يضمرونه إزاءها، فاضت سوزان بالمُعاناة ولَمْ يشفها سوى أملها في النجاة لكنهُ أملٌ مُرتجفٌ، هو نفسه لا يمكنهُ الثبات حازما مثل سوزان، التي فقدت أبسط القوى أو المُواساة كوسيلةٍ تخفيفية من حدة الألم والعنف السري ذي الوقع المُهيب في نفسها الواهنة. دامت مثل هذهِ العادات والحركات السائدة في الكنائس سلفا حتى الوقت الحاضر، إلا أنها تسطع بأشكالٍ مُختلفة وتُجدد ذاتها بعدة طرائق لائقة وفقا للبيت، المُؤسسة والحزب المُهيمن على الساحة المُصطنعة والمُعبأة من قبله.

أنهت شهورا مديدة في القراءة والكتابة أثناء سجنها في حجرةٍ تعيسة؛ بسبب رفضها لدور الراهبة والانتماء الأبدي إلى الدير المُتزمت ودينه المُفتَعَل، وكونها أول فتاة تستنكر أفعالهم، تندد بها وتصرخ في وجه خرافاتهم، على الرغم من استمرار شكوكها حولَ ولادتها من فرطِ الإهمال، الحقد الخفي والسلوك الأناني.

لَمْ تتماشَ مواهبها الموسيقية وصوتها الرخيم مع قوانين الدير الصارمة، لعل هذهِ هي الطريقة التي يتم بها تجاهل الفنون والمواهب وتهميشها في أغلب المُجتمعات إلى يومنا هذا، وعلى رأسها العربية حتما؛ خوفا من تأثيرها الفعال ومعرفة أصحابها الغزيرة وانفتاحها المُتمكن بلا قيود، فإن الغاية من نفي الآداب والفنون أو غاية الاغتراب المسموم، هو كتم الآراء والتغييرات التي تجعلهم في ركن مَن عفا عليهم الزمن وولى، لطالما أن الجديد المُؤثر زعزعهم وخلخل مكانتهم المزعومة المُتبجحة.

قضت فترة لا بأس بها برفقةِ راهبة حكيمة ورقيقة القلب (دي موني) كشخصيةٍ من شخصيات الرواية الثانوية، تغفر الأخطاء وتعفو عن العابرات بحجة أن الإنسان ينغمس في حل مُنغصاته الأقل شدة وخطورة من مُنغصات الآخرين، ولا يدري بذلك حتى يرى حجم مُعضلاته التافهة إلى جانب مُعضلاتهم الصادمة، يحتاجُ المرء دوما إلى نسبٍ كبيرة من الاعتياد ومقدار هائلٍ من الصبر ليتجاوز فداحة الواقع والكآبة المفروضة على النفس المُتسلحة بالإيمان والصلاة. لم تبقَ شجاعة بما فيه الكفاية أمام الوحدة، التعسف وأولئك الذين يعاقبونها ويتخذونها لُعبة مُسلية على الدوام، فهُم قادرون على الضعفاء المتروكين للآلام وحسب، بما أن الأشياء السقيمة قابلة للزوال كالأشياء السيئة سهلة التصديق، إن الإنسان يرتعد كثيرا ويتوجع طويلا قبلَ أن يصلَ إلى حقيقة الأمور بحذافيرها ويفر قليلا من الإرهاب وأرواح أصحابه الشنيعة، ثمة نفوس عطوفة لا شيءَ يُحجرها وإن أعمى معظمهم الصليب والهوس بهِ على حد تعبير ديدرو.

يضم أدب الكنائس – حسب تصنيفي وتسميتي – الإنتاج الأدبي الواسع والثقيل، الذي تكتبهُ أيدي الرهبنة والكنيسة وتدور أحداثه في الأديرة، على الرغم من تشابه القصص الفظيعة فيه، إلا أنها تقترب من بعضها بعضا وتظل دائما مُتواصلة وحقيقية، نقف أمامها عاجزين حتى البكاء.

طرحَ الفيلسوف دنيس ديدرو أسئلة جوهرية مُهمة وساخرة بغية تحطيم الترهات والسخافات انطلاقا من، ما حاجة يسوع إلى هذا القدر من الراهبات العذارى؟ وما حاجة الجنس البشري إلى كُل هؤلاء الضحايا؟ وصولا إلى هل نشعر بضرورة تضييق فتحة الهاوية التي ستهلك فيها الأجيال القادمة؟ والأهم من ذلكَ في رأيي ما الذي كسبته الأديان والمُعتقدات برمتها من أساليب الترهيب، التهويل والتعذيب؟ ما قيمة مُحاولاتها في ظل الجو المُتشنج والقاتل الذي نشأ جراء إصرارها على تنفيذ رغباتها الجائرة ومصالحها الذاتية الظالمة؛ طمعا بالقوة والسيطرة على مفاصل الحياة بأكملِها وتيسير سبلها النافعة وقتما تريد؟

ما تزال سلطة الدين وجشعها منذُ القدم وإلى الحداثة تنشرُ الفوضى وتُهيج الكراهية، مُستعملة أدلة دامغة تخترعها من عندها وتُفسرها بإطنابٍ مُقنعٍ، لئلا يشك أحدٌ في صحتها وجدواها، لكن الوهم يمر على الواهمين لا المُفكرين الواعين، وهؤلاء الأخيرون هُم وحدهم المُنبوذون والمطرودون من نعيم الحمقى، فغالبا ما تعيق الناس سكرتهم اليائسة وتمنعهم من القيام بالثورات والتحركات العازمة على قتل المزاج المُنحرف والتفكير المُنحط المُحبط، ناهيك عن كلمة «نعم» الخاضعة رغما عنهم. أولئك الذين لا يتحركون، لا يلاحظون السلاسل التي تقيدهم، كما تقول الفيلسوفة روزا لوكسمبورغ!

كأن الرواية تسعى إلى تأكيد فكرة أن المرء تتغير طبائعه، تصرفاته وأخلاقه بتغير مُحيطه وابتعاده عن مُجتمعه الأصلي؛ وعليهِ كتبَ الفرنسي ديدرو، أن الإنسان يُولد كي يعيشَ في المُجتمع وإذا فُصِلَ عنهُ، إذا عُزِلَ، تفككت أفكاره وانحرفت طبائعه ونما في قلبهِ ألف انفعال تافه، وولدت في نفسهِ أفكار شاذة مثل الأشواك في أرضِ بور، ضع الإنسان في غابة يصبحُ ضاريا والوضع أسوأ في الأديرة، الكنائس وغيرها الكثير من أماكن العبادة المُخاتِلة، رُبما الغابة تمنح حُرية ورفاهية لا تعطيها الظواهر المُتعبدة كذبا واحتيالا، ما دامت مُقترنة بفكرة التسلط والقهر والعبودية، تتنافى مع تعاليم الدين السديدة الصادقة، دون تلاعب وتكبيل الناس بالتعب والإرهاق.

يتبين أن الكاتب أو الفيلسوف انكب أياما عديدة على كتابةِ هذهِ القطعة الأدبية الفنية المُتقنة وإن احتضن الموت نهايتها بلا انفكاك منشود، يملكُ ذائقة مُذهلة وذكاء عاليا، حيث تبدو الخاتمة منطقية لبنية مُتوازنة وحبكة مُظلمة ومريرة كهذهِ الحبكة المُؤلمة المُستفزة حقا، حذفَ منها جزءا مُبالغا فيهِ كونها رواية تعتمد على قصة فعلية لراهبة تُدعى مارغريت ديلامار، شاعَ أنها غدت محط اهتمام ومركز خطاب الأُدباء في الصالونات الأدبية غابرا، خاصة طوال عام 1758.

لَمْ أرضَ عن الحذوفات المُقررة من قبل رؤية الكاتب، فقد وجدتها طفيفة واعتيادية، لا أنكر أني تلمستها، كما لا أخفي ضجري وتململي في آنٍ معا، إن الرواية مألوفة ومُكررة بالنسبةِ للقارئ الناقد أو المثالي، وهي في الوقت ذاته مُخيفة، مُرعبة ومُتماسكة إن تقمص أحدهم معيشة شخصياتها ولعب أدوارهم في مُخيلته الخصبة، أكادُ اعترف بأنها قصة كلاسيكية من القصص الرهيبة والجذابة في الحقب السابقة وتحديدا حينما تناقلتها الأفواه، أما الآن فأصبحت باهتة ومنسية كأخواتها من الحكايات الموجودات في أدب الكنائس، أو أدب الأديرة بسبب تقدم العالم الديناميكي الجارف. إن اللغة الصافية المُسترسلة تجعل القارئ يُكمل قراءة الصفحات غير المُشوقة جدا بفضلِ ترجمة روز مخلوف البهية والشاعرية، إذن لا ضرر على العمل إن كانَ مرهونا بالزمن وسرعة تطوراته المُريبة، فالعيب ليس عيب الكاتب وخطأه-بالطبع – بل في مُجريات العصر ومساراته المُلوثة، لا تُنسى الرواية بتاتا طالما أن هُناك سردا رقيقا طاغيا يبتلع الحوارات المُكثفة الرتيبة والجارحة ويُرسخ قضايا قاتمة عنيدة وحية، ترفض التعفن والاندثار والاضمحلال بسرعة. «ففي هذا البلد سرعان ما يصبح كُل شيء خارج الاهتمام». قالها المُؤلف ديدرو، ثم أشارَ إلى أن الحياة تبدأ عندما يتخلى البشر عن دفن أصوات الفتية الحالمة والعذبة في القبور، قد تكون هذه القبور بيوتا أو معالمَ دينية خادعة لا يهم، المُهم أن تتلاشى القيود باختلاف أشكالها بلا مسوغات فضفاضة قبيحة، وأن تنسد منابع الشر المُغلفة خارجيا بالرحمة والنور، بوصفِها بؤرة للشر والاشمئزاز تهدف إلى جعل الفرد غير مرئي خادما وغبيا، توهمه بالنقاء الروحي والتطهر، وتضعهُ في حيز التخدير المُراد منذُ البداية ليدير ظهره للحقائق الخلاقة وسلامة الصواب، يلوذ بالصمت ثم ينطفئ في العجز والظلم. تبدو لفظة راهب أو راهبة وما شابه ذلك رمزا وعتبة جيدة للانغلاق والاستغلال من قبل رجال الدين والقساوسة أو أي نزعات بربرية ثانية تكبح الإرادة وتستنزف الجسد عبرَ الكناية الرمزية المُنعمة.

يضم أدب الكنائس – حسب تصنيفي وتسميتي – الإنتاج الأدبي الواسع والثقيل، الذي تكتبهُ أيدي الرهبنة والكنيسة وتدور أحداثه في الأديرة، على الرغم من تشابه القصص الفظيعة فيه، إلا أنها تقترب من بعضها بعضا وتظل دائما مُتواصلة وحقيقية، نقف أمامها عاجزين حتى البكاء.

يُنظر إلى هذه الرواية على أنها إحدى أمهات الكتب الكلاسيكية، إذ تُدرَّس في المدارس الثانوية والجامعات الأوروبية باعتبارها أنموذجا لامِعا لأدب القرن الثامن عشر، ومثالا للهجاء من وثائق الحياة الواقعية، بدأ الأمر كمُذكراتٍ وعبث ثم تطور لاحقا إلى عملٍ روائي فخم.

كاتبة عراقية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي