برهة فكتور خارا المستدامة

2023-09-04

صبحي حديدي

44 طلقة اخترقت جسد فكتور خارا، الشاعر والموسيقيّ والمغني والأستاذ الجامعي التشيلي، يوم 15 أيلول (سبتمبر) 1973: 2 في الرأس، 6 في الركبتين، 14 في الذراعين، و22 في الظهر؛ إذْ لم تكن الجريمة مجرّد إعدام روتيني لمعارض ويساري وشخصية شعبية مناهضة لانقلاب أوغستو بينوشيه ضدّ الرئيس التشيلي سلفادور ألليندي المنتخَب ديمقراطياً، بل كانت أقرب إلى طقس وحشي همجي دموي يتوخى تلقين الدروس وتصنيع الترهيب وإشاعة الرعب. بالأمس، بعد 50 سنة، اختتمت العدالة التشيلية إصدار الأحكام بحقّ 7 من القتلة الذين أمروا باغتيال خارا وأشرفوا بأنفسهم على التنفيذ؛ الأمر الذي سجّل أمثولة جديدة في قوانين التاريخ، كما أعاد التذكير بأنّ الإفلات من العقاب يمكن أن يستغرق عقوداً ولكن يندر أن تُطوى سجلاته على رفوف يأكلها الغبار.

وحين اعتُقل واقتيد إلى ملعب سانتياغو صحبة آلاف آخرين، كان خارا يضع اللمسات الأخيرة على معرض فوتوغرافي بعنوان «من أجل الحياة… دائماً»، وكان من المقرر أن يفتتحه الرئيس ألليندي نفسه، حين وقع انقلاب الجنرالات. وليس خارج مفارقات، وربما ثارات، التاريخ أنّ قرار المحكمة العليا التشيلية بإدانة القتلة صدر في اليوم ذاته الذي شهد قيام الرئيس التشيلي الحالي، غابرييل بوريك، بافتتاح المعرض الذي لم يرَ النور سنة 1973. «نحن نروي تاريخ الضحايا»، قال وزير العدل التشيلي معلقاً على سيرورة قضائية ماراثونية بدأت سنة 1978، وحُفظت مراراً، قبل أن يسرّع في فتح ملفاتها اعتقال بينوشيه في لندن سنة 1998 بمذكرة توقيف من القاضي الإسباني الشجاع بلتسار غارثون، تضمنت اتهام الجنرال المتقاعد بارتكاب المذابح الجماعية والإرهاب الدولي والتعذيب والخطف. وإذْ أشار الوزير إلى «قيمة تعويضية في معرفة الوقائع وشرح أسباب الأحكام»، فالأرجح أنّ اعتبارات بيروقراطية وقضائية حالت دون تشديده على مبدأ المحاسبة مقابل الإفلات من العقاب.

التاريخ يحفظ أيضاً حقيقة أنّ انقضاض الطغمة العسكرية التشيلية على التجربة الديمقراطية الفتية في ذلك البلد، وإجهاضها، واغتيال الرئيس الاشتراكي وزعيم تحالف «الوحدة الشعبية»؛ إنما تمّ بدعم مباشر من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بموافقة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، وبتنظير جيو – سياسي (وفلسفي!) من أحد أشهر وزراء خارجية الولايات المتحدة: هنري كيسنجر، دون سواه. قبل ذلك كانت تشيلي بمثابة الديمقراطية الأكثر استقراراً في عموم أمريكا اللاتينية، إذْ أنجزت انتخابات رئاسية، وانتخابات برلمانية بمجلسَيْن، وأتاحت ازدهار صحافة حرّة وحيوية. ولقد سارع العسكر الانقلابيون إلى حلّ البرلمان، وتأسيس جهاز أمن سرّي كُلّف على الفور بشنّ حملات اعتقال واسعة النطاق، وتعيين حكّام عسكريين لإدارة الجامعات، وحظر الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، و… منع الاستماع إلى أسطوانات فكتور خارا.

لكنّ الأحكام ضدّ 7 من أدوات الاغتيال، وهم منفّذو أوامر ممّن لا يبلغ أيّ منهم شأو الدماغ الأعلى المخطّط والآمر، لا يصحّ أن تطمس الحاجة إلى منبر عريض لمحاكمة حقبة السبعينيات في السياسة الخارجية الأمريكية، وفضح دسائس تخريب الديمقراطيات الوليدة هنا وهناك في العالم، مقابل صناعة الديكتاتوريات وحماية أنظمة الاستبداد والفساد. رجال تلك الحقبة يواصلون التمتّع بحصانة مطلقة، وتُغسل أيديهم تماماً من أدوار قذرة شتى لعبوها وراء هذا الجنرال أو ذاك الديكتاتور؛ على شاكلة كيسنجر الذي لم يصبه من قضية انقلاب تشيلي أيّ أذى، وهو القائل، بلسان بارد كالصقيع، إنّ الولايات المتحدة في موقفها من الانقلاب كانت «مخيّرة بين الديمقراطية والاقتصاد، وكان طبيعياً أن تنحاز إلى الاقتصاد»!

وليس لها، كذلك، أن تجبّ ضرورات توسيع لوائح الاتهام، لتشمل مختلف أنواع الجرائم المرتكبة بحقّ الإنسانية؛ وبينها أو على رأسها، الإبادة الجماعية والمذابح والمجازر المنظّمة. وفي هذه الحال، ثمة أكثر من أساس قانوني يتيح محاكمة التاج البريطاني على الفظائع في إرلندا، أو محاكمة جورج بوش الأب على ما ارتكب الجيش الأمريكي بحقّ المدنيين العراقيين العزل، أو جنرالات دولة الاحتلال الإسرائيلي على الجرائم في غزّة وصبرا وشاتيلا وقانا…

وقبيل اغتياله الوحشي، عمد الجلادون إلى تكسير أصابع خارا بوصفها وسائله في العزف على الغيتار وأداء موسيقاه الشعبية الملتزمة، وفي ختام ثلاثة أيام من الإذلال والتجويع والتعذيب الوحشي استُشهد رمياً بالرصاص، وكان في الواحدة والأربعين من عمره. لكنه تمكن من، ولعله أصرّ وعاند في، كتابة قصيدة أخيرة أخفاها في حذاء أحد السجناء، احتشدت برؤى فجائعية إزاء ما تشهده تشيلي، حتى من خلال الـ 5000 معتقل في ملعب رياضي؛ وتسير خاتمتها هكذا: «أن أرى نفسي وسط الكثيرين/ ولحظات لا عدّ لها من الأبدية/ حيث الصمت والصرخات/ هي نهاية أغنيتي/ لم يسبق لي أن رأيت ما أراه/ وما أحسست به وما أحسّه/ سوف يتمخض عن ولادة البرهة».

وبعض أشغال التاريخ ودروسه أنّ تشيلي اليوم ديمقراطية مستقرّة، وقضاؤها يعمل بحرّية، مثل صحافتها وأحزابها ونقاباتها وفنونها؛ وبرهة خارا باقية مستدامة، على وتيرة المغنّي الأمريكي الشهير بيتر سيغرز الذي أدّى القصيدة الأخيرة باللغة الإنكليزية، وأنّ المكان الذي شهد اغتيال الشاعر صار اسمه الرسمي «ستاد فكتور خارا».








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي