ابن طفيل بين الغياب الرمزي والغياب المطلق

2023-09-01

المهدي مستقيم

ينَطوي مُصَنّفُ الباحث المغربي إبراهيم بورشاشن: عن ابن طفيل مرة أخرى، الصادر حديثا عن منشورات إبهار (الشارقة، الإمارات 2023)، على رسالة واضحة، تقضي بضرورة تشييد ورش فلسفي لجمع الإرث الأدبي والفلسفي والعلمي الذي خلفه ابن طفيل، قصد إعمال النظر فيه بتوسل مستجدات البحث العلمي المعاصر، من أجل، إعادة الاعتبار إلى فيلسوف ظلّ تأليفه مراوحا بين غياب رمزي وآخر مطلق. يقول إبراهيم بورشاشن: «رفع معاناة هذين النوعين من الغياب عن تراث ابن طفيل، مسؤوليّة علميّة جليلَة سَتُعَبِّدُ الطريق ـ لا محالة – أمام كل بحث علمي جاد في ابن طفيل، بحث يُعِيدُ الاعتبار لهذا الفيلسوف الأديب ويبوئه مكانته اللَّائقة بين فلاسفة الإسلام وأدبائهم». لكن ما الغاية من وراء الأوبة إلى ابن طفيل في زمننا الراهن؟ يجيب إبراهيم بورشاشن قائلا: « إنَّ أهمية ابن طفيل تكمن في كونه جسرا للعبور بين الثقافة العربية الإسلامية بعلومها العقليّة المنتصرة للعقل والذوق والوحي، والثقافة الغربية المنتصرة للعقل والمهتمة برحلة «النور الطبيعي» في اختراقاته لغياهب الظّلمات التي غرق فيها العقل البشري، خلال فترات غير هينة من فترات تطوره. ويستمر نص ابن طفيل في تقديم الدّرُوس للثقافتين الإسلامية والغربية، مؤكدا دلالة هذا الاهتمام الذي حظي به ولا يزال.

وسعيا من الباحث إبراهيم بورشاشن للإسهام في التعريف بالتاريخ الفلسفي لهذا الرمز المغربي المشرِق الذي عانى من محنة النسيان، ضمن واقع معاصر مشوبة مناحيه المعقدة بغير قليل من اللّبس، وسوء الفهم، فإنه ارتأى أن يقسم مصنفه الجديد إلى سبعة فصول، إذ خصص الأول لقصة الفلسفة في الأندلس، والثاني لواقع تراث ابن طفيل بين الغياب الرمزي والغياب المطلق، مُكَرِّسا الثالث لفحص قصة حي ابن يقظان واستنطاقها، في حين أفرد الرابع لإشكال الشّر عند «ابن طفيل»، والخامس إلى موقفه من علاقة الفلسفة بالتصوف، والسادس إلى «ابن طفيل» بوصفه نموذجا لحضور السينوية في الغرب الإسلامي، والسابع إلى ظهور ابن طفيل في جبة أبي حامد الغزالي.

بين حقيقتين

لا تَنِّمُّ دعوة ابن طفيل القاضيّة بإحداث قطيعة مع العقل بحسب بورشاشن، عن نزوعٍ مُضَادٍّ للعقل بعامّة، بل لضرب من العقل والمعنى مخصوصين، وهو ما أعلن عنه ابن طفيل نفسه، حين أكبّ على تحديد معنى العقل الذي يضاده؛ حينما وصفه بالأداة المنطقيّة التي تُجَرّدُ الكُلِيّات من المحسوسات، معرفا الفَلَاسِفَة الذين يرافعون من أجله، بالمعتقدة الذين ما برحوا يتخذون من العقل أداة تقتحم كل الفضاءات المعرفيّة، بما فيها الفضاءات اللّامتناهيّة. يقول بورشاشن: «إنَّ ابن طفيل لا يرفض العقل بإطلاق، إنه يرفض فهما ضيّقا للعقل ليس غير؛ العقل الذي يقتنص من الجزئيات كليتها، وابن طفيل وإن كان كلامه في الجزء العملي من الرسالة قد أصبح «فوق هذا النمط»، فإنه ليس فوق العقل؛ لأنّ العقل يظل حاضرا عند ابن طفيل». ويستند إبراهيم بورشاشن في بناء موقفه هذا إلى مسوغين رئيسين آثر عرضهما على النحو الآتي:

«أولا: باعتبار أنّ رسالة ابن طفيل تتمحور حول العلم والعمل، وباعتبار أن العقل النظري بطبيعته يقف عند حدود العلم المجرد فقط، فإنه لا بد من تدخل عقل آخر عملي، يتجاوز هذا المستوى النظري إلى مستوى الفعل والسلوك، أو بعبارة أخرى إلى مستوى العلم المدني. إنَّ ابن طفيل يشتغل هنا في مجال دلالي مؤداه أنَّ العاقل هو الذي يجمع بين العلم والعمل كما يعلمنا كتاب «ميزان العمل».

ثانيا: إنَّ تجربة الكَمَال العلميّة والعمليّة التي عاشها ابن طفيل، جعلته يعتبر المنطق علما يَقصر بالمرء عن الكمال، كما صرح بذلك في مقدمته الفلسفيّة للرسالة؛ فالمنطق الذي احتفى به المعلم الثاني ونذر له ابن سينا شطرا من عمره، واعتبر أبو حامد الجاهل به ممن لا يوثق بعمله وتعليمه، وكتب فيه ابن رشد أكثر من سفر، وعمل ابن حزم على تقريبه من البنية الثقافية الإسلامية. هذا العلم يشطب عليه ابن طفيل من قائمة العلوم المفيدة؛ بدعوى أنه لا يوصل إلى الكمال».

أَيُعَدُّ رفض المنطق مدخلا إلى رفض الفلسفة؟

ليس المنطق، بحسب ابن طفيل، الأداة الوحيدة للمعرفة، بل هو أداة من بين أدواتها فقط؛ على أنَّ الحقائق نوعان: حقائق عقلية، وحقائق حدسيّة، ففي مجال الرياضيات يُعَدُّ المنطق «فضلا لا غناء فيه، ذلك ما تُقَدِّمُه لنا رسالته الفلسفيّة [ابن طفيل]؛ ففي جزء من قسمها الأول- قسمها النظري – يُلَاحَظُ حِرْصُ ابن طفيل على أن تكون استنتاجاته منطقيّة، واستقراءاته واضحة، وخضوعه لمبادئ العقل لا ريب فيه، واحتفاؤه بالهندسة كبيرا، ففي هذا القسم راعى ابن طفيل مبدأ الهوية والتناقض، فلم يكتف بالحرص على قول منسجم المقدمات والنتائج، بل أظهر فيه تفكيرا أكسيوميّا واضحا، في هذا الفهم النظري يكون المنطق لحمة النص». أمَّا في مجال الميتافيزيقا لاسيّما قضايا الإلهيّات، نلفي المنطق عاجزا عجزا تاما، بل نلفيه عائقا يعُوق كل إمكانية من شأنها إدراك الحقيقة؛ ذلك أنَّ الفضاء الإلهي «لا يفهم بلغة الحدود والتعاريف، ولا بلغة القياس والبرهان، كما نظرت له كتب المنطق. إنَّ هذا الفضاء فضاء اللاتحديد، وفضاء التناقض، إنه فضاء القول الاستعاري بما يسمح به من مساحة منفتحة على ألوان مختلفة من الحجاج، لا فضاء القول المنطقي، بما يفرضه من صراحة في الاستدلال». وهو الأمر الذي حدا بجمال الدين العلوي إلى النظر في قطيعة ابن طفيل مع العقل، بوصفها إعلانا عن حدود العقل النظري، يقول العلوي: «سيتم الاستغناء عنه [العقل] نهائيّا فور انتهائه إلى مرحلة الوصول والمشاهدة، ممّا يدل على أنَّ مرحلة الوصول والمشاهدة هي ما يهم ابن طفيل لا معطيات العلم الطبيعي وعلم النفس أو صناعة الطب والتشريح ومن هنا فالمشاهدة التي يدعو إليها ابن طفيل مُؤَسَّسَة بالنظر ولكنها ملغية للنظر في آن واحد». (أورده بورشاشن).

ليس بإمكاننا، حسب ابن طفيل، إذن، توظيف مفاهيم (=الكثرة، والوحدة، والاتصال، والانفصال، والتحيّز، والمغايرة إلخ)، تمت بلورتها من أجل فهم عالم متناه (= محسوس)، من أجل فهم عالم لامتناه (= لا محسوس). يقول ابن طفيل: «لا يُقال فيه (العالم الإلهي) كل، ولا بعض، ولا ينطق في أمره بلفظ من الألفاظ المسموعة إلا وتوهم فيه شيء على خلاف الحقيقة، فلا يعرفه إلا من شاهده». (أورده بورشاشن). هكذا، ينظر ابن طفيل في العقل، بوصفه أداة معرفية يشتدُّ وهجها في مجال الرياضيات وينطفئ في مجال الإلهيّات، يقول بورشاشن: «إنَّ ابن طفيل يعتقد أنَّ للعالم الإلهي منطقه كما أنَّ للعالم المحسوس منطقه كذلك، فلا يمكن أن نفسر العالم الإلهي بمنطق العالم المحسوس».

وتأسيسا عليه، لا يَسَعُنَا إلّا أن نُنَوِّهَ بهذه المبادرة الفكريّة التي تَقاسمها معنا الباحث إبراهيم بورشاشن، في انتظار انبجاس مبادرات محايثة مؤهلة للانفتاح على مثل هذه المتون الكبرى، التي يمكن أن نهتدي على إثرها إلى صلب الخطابات التراثية، قصد مساءلتها من جهة، واستثمارها بتوسل أدوات البحث العلمي المعاصر في معاجلة قضايا الراهن والمستقبل من جهة أخرى.

باحث من المغرب








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي