«من تطوان إلى القاهرة»: رحلة لتجسير المشترك الثقافي العربي أيام الاستعمار

2023-08-30

عبداللطيف الوراري

سياق الرحلة

«من تطوان إلى القاهرة» (دار الإحياء للنشر والتوزيع، 2023) عبارة عن رحلة قام بها الأديب التطواني محمد بن عبد السلام بن عبود (ت 1392هـ/ 1972م) ضمن الوفد الذي أرسله الخليفة السلطاني مولاي الحسن بن المهدي إلى القاهرة، للمشاركة في أشغال اللجنة الثقافية للجامعة العربية سنة 1946، عقب الاتصالات التي تمّتْ بينه وبين عبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة (1945/ 1952) من جهة، ثم بين هذا الأخير ودي ميراندا الوزير الإسباني المفوّض في القاهرة لصالح «توجيه الدعوة إلى المنطقة الإسبانية في المغرب» للمشاركة من جهة أخرى، وكان هذا الوزير يخشى أن تتحول الفعالية الثقافية إلى طور سياسي يتخذ قرارات مناهضة للسياسة الاستعمارية الإسبانية في المنطقة، إلا أنه أيد مسايرتها، وأقنع سلطات بلاده بفكرة إرسال الوفد الذي قد ينفع في صدّ أعمال مُضرّة، وبأنها تشكل فرصة مواتية لكسب التعاطف العربي مع إسبانيا التي كانت تعيش في عزلة دولية فرضها عليها الحلفاء، نتيجة تعاطفها مع دول المحور وقت الحرب.

فالرحلة التي قام بها صاحبها بين سنتي 1945 و1946، جاءت في سياق محلي وإقليمي ودولي شديد التعقيد؛ فالمغرب كان ما يزال تحت نظام الحماية الاستعماري وخاضعا للهيمنة الأوروبية، التي جزأته إلى عدة مناطق نفوذ، وكانت بعض البلاد العربية تحصل على استقلالها وتسعى لبناء دولتها الوطنية، بل البحث عن ريادة إقليمية تحركها نوازع «قومية» غداة تأسيس منظمة الجامعة العربية في مارس/آذار 1945، وكانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها، والعالم يلتقط أنفاسه ويتهيّأ لدخول مرحلة جديدة أيديولوجيا وجيوسياسيا.

جاء نص الرحلة مُقيّدا بهذا السياق التداولي العارم، ومحتشدا بالمصطلحات وأسماء الأعلام والأماكن والمؤسسات والمعاهدات الإقليمية والدولية، وقد عمل المحقّقان مصطفى الغاشي ومصطفى العيدي على تحشية النص بشروحات مستفيضة رجعا من خلالها إلى بيبلوغرافيا موسعة (مخطوطات، مطبوعات ودوريات، موسوعات، مواقع إلكترونية) لتيسير قراءته وفكّ غوامضه. كما قدما للرحلة بدراسة تضيء السياق التاريخي، وتكشف مجموع القضايا السياسية والثقافية والسوسيواقتصادية التي اشتملت عليها، عدا نقد المخطوطة من حيث الشكل والمضمون. فنص الرحلة يمثل ـ في نظرهما- «صورة توثيقية مفيدة لمرحلة مهمّة من تاريخ شمال المغرب» وله «قيمة تاريخية وثقافية كبيرة» إذ كتب في لحظة حاسمة من تاريخ المغرب المعاصر، هي زمن الحماية الإسبانية/ الفرنسية، كما أنها تزامنت مع نهاية الحرب العالمية وما خلفته من انعكاسات على العلاقات الدولية المختلفة وحركات التحرر في العالم.

هي رحلة وفدية رسمية ذات طابع دبلوماسي ثقافي، تسير في بنائها العام وفق نهج الرحلات السفارية، التي يتمّ فيها تحديد أسباب الرحلة (المشاركة في أشغال اللجنة الثقافية) وأهدافها (تعزيز التعاون وربط أواصر الأخوة بين المغرب والمشرق) والوفد المرافق الذي كان يتكون من صاحب الرحلة، وامحمد بن أحمد بن عبود باعتباره رئيسا له، ومحمد الفاسي الخلفاوي، وذكر أهم الأشغال والمناقشات التي شارك فيها الوفد ولقاءاته مع الوفود العربية الأخرى. كما لا تخلو الرحلة من وصف مشاهدات طبيعية وقعت عليها عينا صاحبها، ومواقف فكرية وإنسانية تعكس شخصيته الوطنية ومستوى ثقافته وميله إلى حب الخير والعدالة والإيمان بالأخوة الإنسانية.

وقد كُتب نصّ الرحلة بأسلوب تقريري يتراوح بين الإيجاز والتفصيل، ولم يكن صاحبها معنيّا بوجوه بلاغته وأدبيته. فالقصد من الرحلة التي دوّنها خلال أيام مقامه في القاهرة كان أميل إلى التوثيق وجمع المعطيات المتعلقة بأنشطة اللجنة الثقافية التي شارك فيها بحماس. يقول: «فهذه مذكرات كتبتها في مدينة القاهرة لما كنت في لجنة الثقافة، ومعلومات جمعتها هناك». ويمكن أن نمفصل وقائع الرحلة إلى مسارين: الأوّل انطباعي ذاتي يعكس نزوع صاحبه الوطني والإنساني، ورفضه للحرب وغرائز الأنانية والتعصب وحب السيطرة، ومن خلاله يقدم عن نفسه صورةً لذات منفتحة ومتسامحة في علاقتها بالآخر والحوار معه، تترجح بين الانبهار والإعجاب والحسرة والدفاع عن الحق دون استعلاء أو إذابة، كما كان يتحوّط أن يمسَّ سلطات إسبانيا «الحامية» لشمال بلاده بنقد مباشر، بل «أن نبتعد كل البعد عن كل ما يضر الصداقة الإسبانية المغربية العربية». ومسار ثانٍ ذو طابع توثيقي يتعلق بشهادة حية لشخص مثقف ملتزم ورجل تربية كانت مشاركته في اجتماعات اللجنة الثقافية فاعلة وذات سقف عالٍ من الطموح والمسؤولية التاريخية.

سفينة نوح

انطلقت الرحلة بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 1945، على متن الباخرة التي توجهت من تطوان وسبتة إلى إسبانيا، حيث أقام فيها المؤلف أياما بسبب تأخر موعد انطلاقها في اتجاه مصر إلى تاريخ 23 يناير/كانون الثاني 1946، وهناك وصف مدريد بأنها «أجمل مدينة في أوروبا وأهلها يتمتعون بالسعادة والرفاهية لأن عاصمتهم قد نجت من هذه الحرب التي دمرت كل عواصم أوروبا تقريبا، وسببت الفقر والمصائب لجميع سكانها» وفي برشلونة شاهد «جو المال والتجارة والصناعة» حيث «غريزة حب التملك قد طغت والمال استولى على العقول والأفكار». وفي عرض البحر، عبر شواطئ ميلانو المدمرة، ثم شواطئ فلسطين التي ما إن لاحت حتى ألهبت عاطفته وأثارت في نفسه الشعور بالانتماء القومي الأصيل، رأى كأنه على «سفينة نوح» فقد جمعت على متنها أنواع البشر المتوجهين إلى الشرق فراراً من آثار الحرب المدمرة، وفيهم يابانيون وأسرى ألمانيون وإيطاليون ورهبان ويهود ومصريون وإسبان. وتحت تأثير «حب الاطلاع على الجديد ومعرفة الغريب» كان يقضي معظم وقته مع جماعة من اليابانيين الذين يحسنون الإسبانية، وأُعجب بأخلاقهم وتفاؤلهم وحبّهم لوطنهم وإرادتهم القوية من أجل بنائه: «لقد تعلمت اليابان من درس هذه الحرب أن الحلفاء الذين قهروا اليابان جبهة قوية لا يمكن أن تُغلب، ومن الخير لليابان أن تجعل من أعدائها بالأمس أصدقاء الغد». كما دخل المؤلف في حوار حجاجي مع أحد اليهود القادم من البرازيل في طريقه إلى أرض فلسطين، الذي بدا في نظره «متكبّرا ومنفعلا ومتحمسا» لإنشاء دولة يهودية على هذه الأرض، تحركه مزاعم وأوهام دينية وتاريخية، ودافع عن حقّ الفلسطينيين الذين عاشوا في أرضهم منذ قرون طويلة، وأشار عليه بأن يبحثوا لهم عن أرض غيرها، «فقال لي: إن هذا حق، لكن فلا يمكن لأي دولة أن تبيع لنا أرضا نكون فيها وطنا، لأن الأوطان لا تباع. فقلتُ له: إذا كان كذلك فأنتم في أرض المهجر تعيشون أقليات وتتمتعون بكامل حقوقكم. فقال: هيهات هيهات أن يرضى اليهودي العصري بذلك ويقنع بأن يعيش ذليلا في أوطان غيره وله وطنه وأرضه وعزه. فقلت له: ليس له وطن إلا في الخيال، فقال: سيصبح هذه الخيال حقيقة. فقلت له: لن يتحقق ذلك ما دام في الأرض عدل وحق وعرب وإسلام».

تقريض مصر

على شواطئ مصر، سحرت الرحّالةَ طبيعتُها الخلابة و«المراكب الشراعية النيلية التي تظهر من بعيد». وحين حطّ رحاله في القاهرة، أعجب بالمدينة وبما شاهده فيها «من نهضة وحرية واستقلال داخلي وحركة سياسية كبرى» وأُعجب بالمصريين الذين أسهب في الحديث عن مجتمعهم الذي يتصف بالكرم والأخلاق العالية، وبمستواه الثقافي والتعليمي الرفيع: «فالكتب تؤلف بالعشرات في كل شهر، والجرائد لا تحصى كثرة، والمجلات التي تخدم الغايات المتنوعة كثيرة وجميلة، والمحاضرات والمناظرات في كل ليلة، والمعاهد العلمية والمدارس الابتدائية لا تحصى والشباب المتعلم تجده أينما ذهبت». وانبهر بالأذان وبألحان الموسيقى المصرية وعمالقتها مثل، أم كلثوم التي «تهزّ القلوب وتدمع العيون وتهيج العواطف بفنّها السحري وصوتها الجميل». كما أبرز الدور الحيوي الذي تضطلع به جامعتا الأزهر والقاهرة (فؤاد الأول) في تحقيق التوازن بين مطلب الحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية، وضرورة الانفتاح على العصر الحديث.

وفي هذا كلّه، يغمز الرحالة إلى أن الإنسان المغربي إذا أتيحت له الحرية والكرامة وتمتع وطنه بالاستقلال والحياة العصرية في إطار الدستور والقانون، يمكن بدوره أن ينعم بما ينعم به الإنسان المصري، ويمكن لنخبته المثقفة أن تبني الدولة الحديثة وتسير شؤونها بمعزل عن الاستعمار ووصايته «الحمائية» الجائرة: «والمصري أيضا مستقل في بلاده فلا يراقبه مراقب ولا ينغص حياته أجنبي، فالمصريون ساداتٌ في بلادهم يحكمون نفسهم بنفسهم وينظمون شؤونهم بنفسهم لا يكدر صفوهم مكدر، ولا يستبد بأمرهم مستبد. فالحكومة مصرية والجيش مصري والمالية في يد المصريين، والكرامة المصرية محفوظة والناس يفعلون في بلادهم ما شاؤوا لا معقب لأمرهم». وقد رأى في «بيت المغرب» الذي أقيم في واحد من أحياء القاهرة، «أعظم آصرة» بين مصر والمغرب، وبفضله نبغت بعض رموز الثقافة المغربية الحديثة، مثل محمد بن تاويت.

دفاعا عن القضية المغربية

ينصرف نص الرحلة في جزئه الأكبر إلى مداولات اللجنة الثقافية التي انطلقت بتاريخ 27 فبراير/شباط 1946 في دار الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وتركزت على مناقشة مواد المعاهدة الثقافية، والمذكرات ذات الصلة التي صادقت عليها، بما في ذلك مذكرة بشأن حماية الملكية الأدبية والفنية، وأخرى تتعلق بتأسيس معهد إحياء المخطوطات العربية، وما تمخض عن كل ذلك من قرارات تسعى لتمتين العلاقات الثقافية العربية في جوانبها التعليمية والفكرية والأدبية. وعدا الطموح الكبير الذي عبّرت عنه هذه المداولات لتجسير علاقات التعاون والأخوة بين ضفتي العالم العربي، فإن مشاركة الوفد المغربي في أعمالها، سمحت بالانتساب إلى «رابطة الدفاع عن مراكش» التي أعقبها تأسيس «مكتب المغرب العربي» في القاهرة في 15 فبراير 1947. وساعد كل ذلك رجال الحركة الوطنية على استثمار الخبرة بكواليس العمل السياسي والتفاوضي، والتعريف بالقضية المغربية وعدالتها في الساحة السياسية والإعلامية على صعيد المشرق العربي، وهو ما أتاح لهذه الحركة توسيع دائرة التحرك والمناورة وتكثيف جهودها على المستوى الخارجي ضد سياسات إسبانيا وفرنسا الاستعمارية، عبر استغلال منصات الجامعة العربية وهيئة الأمم المتحدة.

كاتب مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي