الأزمة: إشكالية في المفهوم

2023-08-28

سعدون يخلف

لا تخلو أي دراسة أو بحث من الإشارة إلى أن العالم في أزمة.. يختلف توصيف هذه الأزمة حسب من يُقدّم هذا التوصيف؛ فهناك من يري أنّ الأزمة في العالم سياسيّة، ولا بدّ من حلول سياسيّة، حتى يمكن كبح هذه المخاطر التي تعصف بالعالم، وهناك، في المقابل، من يراها اقتصاديّة، فيطالب بإصلاحات اقتصاديّة جريئة، ترمم ما أفسده اقتصاد السوق، غير أنّ هناك من يقول بأنّها نتيجةٌ لغياب الوازع الأخلاقيِّ في عالم لا يؤمن إلا بالمادة، ولا يهمُّه سوى مراكمة الأرباح، ومن ثمّ، فهو يطالب بضرورة استدعاء العقل الأخلاقيِّ لمعالجة هذه الأزمة، أو على الأقل، ليكون له دور في تقديم الحلول الكفيلة للخروج منها، في حين يذهب البعض إلى أنّها بيئيّة، وما تشهده البشريّة اليوم من ظهور للأوبئة، وارتفاع قياسي لدرجة الحرارة، وفيضانات وثلوج في عزِّ الصيف في العديد من الدول، ما هي، في الحقيقة، سوى النتيجة الحتميّة للاعتداء الصارخ على الطبيعة من طرف الإنسان، لكن، على ما يبدو أن الكل يمتلك ولو نسبة معتبرة من التوصيف الصحيح؛ فالأزمة اليوم لا يمكن اختزالها في بُعْدٍ واحدٍ فقط، إنما هي متعددة ومركبة، قد تشمل كل ما ذكرنا آنفاً، على أنّ السؤال الذي نطرحه هنا هو: ما هي الأزمة؟

لقد حاول المفكر الفرنسي إدغار موران (1921) الإجابة عن هذا السؤال في كتابه صغير الحجم «في مفهوم الأزمة» وهو كتاب زاخر بالمعلومة والتحليل، لكنه لا يخلو من الصعوبة والتعقيد، الكتاب من إصدارات دار الساقي (2016) ترجمة بديعة بوليلة.

في مفهوم الأزمة

تحيل كلمة الأزمة إلى غياب اليقين، مع أنّها كانت عند اليونانيين القدامى تدل على اللحظة التي يمكن فيها تشخيص المرض، عندما تظهر الأعراض الدالة على وجود علة ما، أما الأزمة اليوم، فهي تشير إلى صعوبةٍ في التشخيص، ما ينتج عنه، والحال هذه، حالة من التردد والاضطراب والزيادة في غياب اليقين، والسبب في ذلك، حسب موران، يعود إلى التعميم الذي أفرغ مفهوم هذا المصطلح من معناه، ومرده، أيضاً، وهذا هو الأهم، إلى الأزمة في حدِّ ذاتها، لأن حدوثها يقتضي البحث عن العلاج، وهذا الأمر متعلق أكثر بالمستقبل، فينتج عنه، بالتالي، التفكير في مآلات هذا العلاج، في هذا الصدد يكتب موران قائلا: «يمكن أن يتعلق غياب اليقين بسبب الأزمة، لكنه متعلق دائماً بمستقبلها» أي أنّ غياب اليقين ينتقل من حاضر (سبب) الأزمة إلى مستقبلها (نتيجة) بمعنى آخر، أن الأسئلة تطرح حول الوضع بعد علاج الأزمة، أقاد إلى حلها، أم إلى الاستقرار على تلك الحالة، أم هل جرى النكوص إلى وضع أسوأ من الحالي، ومن ثمّ، صار التعرّف على مفهوم الأزمة في حدِّ ذاته أزمة.

من هذه الزاوية بالذّات، يرى موران أنّ الأزمة، على الرّغم من معناها السلبي، بما تتضمن من إمكانات للتدمير، فهي في المقابل، تحمل المعنى الإيجابي، إذا كانت حاملة لإمكانات الإبداع والخلق. وحتّى تتضح هذه الفكرة أكثر، وجب الاستطراد في الشرح والتفسير؛ فإذا كانت نتيجة الخروج من الوضع السابق، هي الوقوع في مآزق أخرى، مع ما يترتب عنه من تراجع، ومن عدم القدرة على المحافظة على هذا الوضع، فتكون النتيجة النهائية هي النكوص، سواء أكان على شكل تراجع أم تدمير، فالأزمة هنا تحوي الإمكانات السلبية، أما في حالة القدرة على صياغة حلول جديدة بفضل الخيال الخلاق، إذ يتحقق النجاح في الانتقال إلى وضع جديد وسليم، فالأزمة هنا ذات إمكانات إيجابية؛ في حين إذا حدث انتقال عكسي، أي التراجع إلى الوضع السابق جرّاء انحراف ما، فيمكن أن نطلق عليها، وفقاً لموران، الإمكانات الإيجابية، لأنّه جرى التراجع مع الحفاظ على الوضع السابق. ولتوضيح ذلك نشير إلى أنّ كلمة أزمة تنطوي على جملة تناقضات، من قبيل: كبح وتحرير؛ تفكيك قوى وإعادة توليد أخرى؛ خطر وفرصة، «خطر تراجع، وفرصة تقدم» كما أنّها قد تتحدد بفترات استقرار، أو بالانتقال إلى وضع أخر أكثر تطوراً، هذا وقد يتضمن التطور عنصر أزمة.

فهم المجتمع كمدخل لفهم الأزمة

وحتى يمكن تقديم مفهوم الأزمة، بعيداً عن كونها تتغذى من فكرة الاضطراب واختلال التوازن، يرى موران أنّه ينبغي فهم المجتمع، بوصفه نموذجاً يصلح للدراسة والتحليل، وبوصفه، كذلك، نظاماً هو في عرضة دائمة للأزمات، يفسر موران هذه الفكرة بالقول: «في الواقع، إذا ما أردنا فهم الأزمة في ما هو أبعد من فكرة الاضطراب والاختيار واختلال التوازن، يجب فهم المجتمع بما هو نظام قادر على أن يتعرض لأزمات». ولا يكتفي موران بتفكيك مفهوم الأزمة، على المستوى النظري فحسب، بل يأتي إلى تمظهراتها في الواقع، محلياً كانت أم عالمياً، فيكشف من خلالها، مظاهر الأزمة العالمية في بعدها الحضاري أو الإنساني، مع ضرورة الإشارة، في هذا السياق، إلى أنّ تحديد مفهوم الأزمة في هاتين الحالتين صعبٌ جداً، لغياب مؤشرات واضحة تضبط ملامحها.

أزمة حضارة

تتسم هذه الأزمة، بحسب موران، بعدم الوضوح، فهي تحدث بطريقة ناعمة، وليست عنيفة، فضلا عن أنّها عميقة، وفي مثل هذه الحالة ينبغي البحث «عن عقدة الأزمة في أمر عميق وخفي عن وسيلة الضبط» وقد ظهرت أعراضها في الغرب، نتيجة إعادة النظر في العديد من الأحكام، منها الرفاه مثلا، فبدلا من أن يؤدي إلى الشعور بالراحة والإحساس بالطمأنينة، أدّى إلى العكس من ذلك، إلى الشعور بالكرب والقلق. إذ ينطلق موران في تحليل هذه الظاهرة من زيارة قام بها إلى أمريكا في سبعينيات القرن المنصرم، متخذاً إياها نموذجا تحليليا، حيث لاحظ أنّ الشباب المنحدرين من أُسرٍ غنيّة، يتركون عائلاتهم، وينتقلون إلى العيش ضمن جماعات زاهدة، من أجل استعادة الشعور بالأمان، من دفء الجماعة وروح التضامن. هذه الظاهرة، في الحقيقة، صرخة ضد الفردانية، وهي رفضٌ لتفتيت الكيانات، التي تكرِّس العيش في جماعة، وتسعى إلى إقامة علاقات مبنية على الحب والود، إذ يقول: «إنّ ظاهرة البحث عن جماعة مثّلت إشارة إلى أنّ هؤلاء الشباب لم يكونوا ليُرضوا تطلّعاتهم عبر الفردانية الأخاذة، لكن عبر علاقات ودية عميقة». ويؤكد موران في كتابه «نحو سياسة حضارية» أن أمراض الحضارة شديدة التعقيد، بما تتضمنه من سمات إيجابية وأخرى سلبية، فالرأسمالية مثلا، كانت سبباً في نمو الإنتاج، لكنّها، في المقابل، كانت سبباً لتحويل كل شيء إلى بضاعة، ومن هنا، فإن سياسة الحضارة بوصفها سياسةً تحاول علاج، أو بالأحرى كبح، أمراض الحضارة، من خلال الاشتغال على الإيجابي منها، فتقوم بتنميته وتطويره، ومن ثمّ، تحييد السلبي فيها وتحجيمه، والمقصود بسياسة الحضارة أنّها «عبارة عن سياسة متعددة الأبعاد، لأنّ كل مشاكل الإنسانية اليوم تكسب بعداً سياسياً» وتقوم هذه السياسة على أربعة أوامر هي: «خلق التضامن (ضد التشرذم والتجزئة)؛ الرجوع إلى الأصل (ضد تلاشي الهويات)؛ المؤانسة (ضد تقهقر جودة الحياة)؛ والتخليق (ضد اللامسؤولية والأنانية)».

واللافت للنظر أنّ فكرة أزمة الحضارة، صارت وظيفتها عكسية، فبدلا من أن توقظ الوعي أدّت إلى تنويمه، وبدلا من إثارة القلق عملت على تخديره، وكأنّ الأمر في حاجةٍ إلى تعميق الأزمات، أو الاقتراب من الكارثة أكثر، حتى يكون هناك وعي بالأزمة، حسب تعليق موران.

أزمة الإنسانيّة

يرى إدغار موران أنّ العالم يواجه أزمة الإنسانيّة: «نحن أمام أزمة الإنسانيّة التي لا تكتمل إنسانيتها» أي التي لم تستطع أن تكمل إنسانيتها في ماضيها وحاضرها، وهي في طريق تضييعها في مستقبلها، إذا واصلت السير على هذا النهج، والعولمة هي التعبير الواضح لهذه الأزمة، باعتبارها عمليّة أسست لغزو العالم من طرف الغرب. إن العولمة حتّى إن حققت أموراً إيجابية في حياة البشر، عبر تسهيل سبل العيش والتواصل واختصار المسافات، بجعل العالم «قرية صغيرة» غير أنّها خلقت مصيراً مشتركاً للعالم كله؛ فقد صار يواجه المخاطر نفسها، كـ«التلوث البيئي، وانتشار الأسلحة المدمرة، لاسيما النووية، والاقتصاد الذي يزداد انفلاته، والهيمنة الخارجة عن السيطرة» إنّها مخاطر تهدد حياة البشرية، وتنذر بأنّ النهاية قد تكون وشيكة على كوكب لم تستغل إمكاناته وثرواته بعقلانية وحكمة.

يدعو موران، في هذا السياق، إلى ضرورة فك الارتباط بين الغرب والعالم، فالغرب ما زال ينظر إلى نفسه أنّه العالم، ومشاكله هي مشاكل العالم، إذ يرى، والحال هذه، أنّه ليس من المعقول أن يبقى الغرب يصدر مشاكله الخاصة إلى بقية العالم، باعتبارها مشاكل عالمية، وليست خاصة به. وواقع الأمر أنّ التطور العلمي والتقني السريع، يصاحبه تنامي الأزمات وتكاثرها، واضعاً بذلك الإنسانية في مواجهة حتمية مع «ما بعد الإنسانية» عالم الروبوتات والذكاء الاصطناعي، باعتباره واقعاً جديداً، يمتد تأثيره إلى مجالات عدة من حياة الإنسان، الاقتصاد والسياسة والثقافة والدين واللغة؛ طارحاً، في الوقت ذاته، إشكالات مهمة حول أزمات مستقبلية، تستدعي التفكير الجاد والعمل السريع، لإيجاد حلول مستعجلة لمجابهة مخاطره المستجدة. إنّ هذا التطور، في المقابل، لا يصاحبه وعي بالمعنى الفكري والأخلاقي؛ وهنا تكمن المعضلة الحقيقة، لذا، ينبغي تشكيل وعي حقيقي، بالاشتغال على الوعي بالأزمة، حتّى يمكن تحجيمها، والتقليل من مخاطرها، فالأزمة، كما أشرنا من قبل، هي بمثابة تحذير من تهديد، تتضمن فرصة ذات «طابعِ صحوةٍ» لتدفع الإنسان إلى اليقظة، وإلى التخلي عن الأنانية، والقبول بالعيش المشترك في ظل العائلة الإنسانية، في جو يسوده التعاون والتضامن من أجل الأفضل.

كاتب جزائري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي