فساد الكلمات

2023-08-26

خليل النعيمي

عصر الاضطراب العربي الجديد هو الذي ساهم في تفشّي ظاهرة «فساد الكلمات» وانتشارها الواسع. وعندما تفسد الكلمات يفسد كل شيء: الحب والصداقة والأدب والمنطق والتصوّرات الأخرى والسلطة ومعارضتها والثورة عليها، أيضاً. كل شيء يغدو فاسداً وغَثيثاً عندما يسود الانحطاط.

وفي وضع كهذا القائم اليوم في العالم العربي، لا ينفع الكلام، ولا الصمت يجدي. فالصمت الذي اعتبر، ذات يوم، من ذهب، لم يكن صمتاً منافقاً، ولا ممالئاً، ولا سِتاراً للاستيعاب، كما هي حال صمتنا اليوم. كان، على العكس منه، فعلاً أريباً في مواجهة التشدّق الفارغ المحمول على لغة السلطة. صمتنا اليوم همّه التَستُّر على ما يجب فَضْحه، وغَضّ الطَرْف عمّا يحدث في فضائنا من مآس وانتهاكات، تستحق التشهير بها بقوّة. وهو ما يجعل منه صمتاً خبيثاً، ومرائياً، إن لم يكن هو نفسه أحد عوامل حقبة «فساد الكلمات» التي نتكلّم عنها.

صرنا، اليوم، في وضع مثير للقلق، فعلاً. وضع اضطراب شامل أنتج التَفتُّت السياسي والاجتماعي والثقافي المعمَّم الذي نعيشه. عيوننا في مكان، وعقولنا في مكان آخر، ولا حاجة للتكلُّم عن القلوب. فمَنْ كان مثلنا لا يملك إرادة الحياة التي يعيشها، لا قلب له، ولا بصيرة. إنه كائن طفَيْليّ بامتياز. يعيش على جهود غيره، ويستهلك ما ينتجه الغير بلا حدود، ولا يعرف معنى الرغبة بالتحرر من التبعية له، إنْ لم يكن ما يحرّكه هو العكس تماماً: التمادي أكثر، فأكثر، في تطفُّله، عليه، والعكس دائماً هو الصحيح.

امتصاص الآخرين غدا اختصاصنا.. صرنا شعباً من المصّاصين بامتياز: نلعب بأقدام غيرنا. ونفكّر بعقول غيرنا. نتسلّق السموات بأدواته. ونقطع المسافات الشاسعة بآليات صنعها هو. نتلَقَّف، بسعادة، ما يَقذفه في وجوهنا من سِلَع ومنتوجات شتى، بما في ذلك المكتوب منها. وبدلاً من أن نعيد النظر بما نحن فيه من تَردّ وتهوّر، نصير نتباهى بمعرفتنا المسطّحة واللامجدية بمآثر العالم. وهو ما يزيد هيمنة الآخرين اللامحدودة علينا، على كل شيء فينا! أولئك المنتجون لكل شيء هم أسيادنا، ونحن نحسب أننا أحرار. منذ أن ساد «فساد الكلمات» اِنقلب كل شيء فينا، ولا يهمّ معرفياً إذا كان الانقلاب هو نفسه سبب «فساد الكلمات» المهمّ، أننا صرنا نحب غيرنا ونكره بعضنا. نتمنى أن تخرب بلاد الأقربين وأن ينتعش الذين لا يكنّون لنا أي احترام. نتنمّر على أهلنا، ونغدو مؤدبين تماماً مع الغُرباء. تعلّمنا الخضوع والبلادة والترهّل الفكري. وتدَرَّبْنا على تحاشي الأخطار والتجاوز والإفراط. لم يعد يزعجنا أن نخضع للآخرين، بدلاً من أن نواجههم. وهل في إمكاننا أن نفعل ذلك؟ المواجهة تتطلّب ذاتاً حرة، وفاعلة، جديرة بالاعتماد على ما تنتجه هي، تحديداً، وليس في إمكاننا إنتاج مسمار صغير نعلّق عليه أحلامنا البائسة، فمحيطنا الغني غنى هائلاً بما يكتنزه من خيرات، والفقير بشكل مؤسف بإبداع أهله، لا ينتج إلا الكسل والتفرّج والتبضّع والتقليد والتقميش، وفوق ذلك كله القمع والتحقير والتهجير.

لكن من أين تنبع الكلمات الفاسدة؟ أين تختبئ؟ في رؤوسنا بالطبع. الكلمات الفاسدة هي نحن. هي أهلها الذين يتعاملون بها. الكلمات ليست في القواميس كما قد يظن بعض المبدعين، وهي ليست الكتابة عن بُعد عن أحداث لم نعشْها، ولم نشارك فيها، ولو بشكل عابر. إنها في الحياة، في الشارع، في المعمل وفي البيت والجامعة. الكلمات الفاسدة هي «الإنشاء الأدبي» البائت. هي مخلّفات اللاعمل. هي اللاإبداع في الحياة. هي الفتور في المشاعر والكلام والكتابة. هي اللامعنى الذي يفرض نفسه علينا، على الرغم منا لأننا لا نعرف كيف ننتج نصاً حيّاً. هي المخيّلة التي تنطوي على نفسها، بدلاً من أن تنطلق، فتمتلئ بالركود والعَفَن والرَميم.

وفي النهاية، «فساد الكلمات» هو تلخيص لحقبة البؤس الإنساني الذي نعيشه، الآن، والكلمات الفاسدة ما هي إلاّ ِالكائن الذي يستخدمها.. فاحذروا المكتوب.

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي