رواية «الزمن الموحش» ومعاناة المثقف العربي

2023-08-26

عبد الجبار العلمي

غادر الكاتب الروائي السوري حيدر حيدر عالمنا هذه السنة عن عمر يناهز 87 سنة (1936ـ 2023) بعد أن خلف لنا تراثاً سردياً، سواء في مجال الرواية أو القصة. وأبرز أعماله الروائية رواياته: «وليمة لأعشاب البحر»؛ «الزمن الموحش»؛ «الفهد» «مرايا النار» «شموس الغجر». أما أعماله القصصية، فيمكن أن نذكر منها هنا: «حكايا النورس المهاجر» «الفيضان» «الوعول». وقد عرف الكاتب بانحيازه للاتجاه اليساري والقضايا القومية العربية، وأهمها القضية الفلسطينية، يقول السارد في أحد الجمل السردية «فلسطين جرح ناغل في الجانب الأيسر اللاصق للقلب» فضلاً عن الجرح الفلسطيني النازف منذ سنة 1948، كان لهزيمة يونيو/حزيران 1967 أثرها البالغ في نفوس المثقفين العرب عموماً، وأمست أحلامهم وآمالهم العريضة بتحقيق الوحدة والتقدم والحرية في وطنهم، سراباً خادعاً وبرقاً خلباً. وأحس المثقف أنه كان مخدوعاً بوعود وشعارات جوفاء من لدن القادة والزعماء العرب، الذين كانوا يتزعمون الأمة ضد الاستعمار والعدو الصهيوني، وتقوم أنظمتهم على الاستبداد والحكم الفردي التي قادت إلى الهزيمة، تتالت بعدها هزائم ونكسات متكررة.

رواية «الزمن الموحش» ترصد معاناة المثقف العربي وإحساسه الحاد بانتكاسه وضياعه في هذا الوضع السريالي الموحش، الذي تعاني فيه الشخوص الروائية الكثير من التشوهات النفسية والروحية والقيمية، لكنها تقدم كل ذلك بطريقة شعرية. يرى محمد برادة «إن بنية الزمن الموحش بنية سائبة، لأنها لا تريد أن ترتكز على عناصر تكوينية تصبح ملزِمة في تحديد العلائق والصراعات داخل مجتمع الرواية، وموجهة في تعدد اللغات الاجتماعية والتفاعل مع الفضاء والزمان المباشرين، لأنها تريد أن تكون رواية شِعرية، رواية «كلية» تطرح كل القضايا والهموم والتجارب، ويختلط فيها البعد الاجتماعي السياسي بالبعد الميتافيزيقي والثورة بالجنس، وخيانة الوطن بخيانة الزوجة». وسنحاول مقاربة رواية «الزمن الموحش» انطلاقاً من مكونات الخطاب الروائي التالية:

الشخصيات

تزخر الرواية بالشخصيات، ومعظمها تنتمي إلى فئة المثقفين (البورجوازية الصغرى): منى سامر البدوي راني وائل الأسدي هدى مسرور ديانا أمينة أيوب. ويرى محمد برادة أن شخصية منى تتميز عن باقي الشخصيات، تتخذ، ومنذ البدء، ملامح الرمز المتعدد الملامح: فهي رمز للثورة، والحب المتكامل، والتواصل، والانتصار على الصهيونية. في حين أن أمينة تكون نموذجاً للمرأة المقهورة المحرومة في حياتها الزوجية.. ومن الجدير بالملاحظة أن الرواية تمتلئ بالمناقشات التي تدور عادة بين المثقفين: مناقشات حول الأدب والسياسة وعلاقة الإنسان بالوجود والكون، ويوجه السارد الشخصية نقداً لاذعاً إلى سلوكات البورجوازية الصغرى وإلى مواقفها المتذبذبة المتناقضة، فسامر البدوي مثلاً الذي يدعي الثورية، يؤمن بأن الشعر والفن عموماً يجب أن يكون ذاتياً، يرصد هموم الذات، وليس من اللازم أن يحقق أي تواصل مع الجماهير، ووائل الأسدي المثقف الذي حولته السلطة إلى جلاد يعذب من يدافعون عن القيم التي كان يؤمن بها. والمعروف أن الطبقة البورجوازية الصغرى العربية حين تصعد إلى مراكز السلطة تنقلب على المبادئ التي كانت تنادي بها.

الحوار

من الملاحظ أن الحوار يهيمن عل بنية النص، سواء الحوار المباشر أو الحوار الداخلي المسرود. يقول السارد: (قلت في سري: «ربما كانت هذه هي التي أبحث عنها»). ويقول محمد برادة « إن تلك الشخصيات التي تعمر «الزمن الموحش» سرعان ما تظهر وراء الكلمات الجوهرية ليسود سياق شعري يسم الرواية ببناء معماري واضح: الحوار الداخلي لشخصية تريد أن تكون شاهدةً على سقوط جيلها ومجتمعها، رافضةً للتلوثِ، تبشر بالآتي وتستحيل ذاكرةً للمستقبل». إن ما يؤكد هيمنة الحوار الداخلي أو «مونولوجية» الرواية، حسب تعبير محمد برادة، هو طبيعة هذا الحوار، فهو لا يمهد لفعل، ولا يرسم الشخصيات، وإنما يتابع أفكاراً ومقولات تفسر مشاكل السارد أو المؤلف».

الزمن الروائي

يقوم الزمن الروائي في «الزمن الموحش» على الارتداد الزمني: Analepses حسب جيرار جونيت، أو ما يدعوه موريس أبو ناظر بـ»النسق الزمني الهابط» حينما يتذكر السارد الشخصية لقاءه مع «منى» في غابة الصيد. وعلى هذا يمكن القول: إن في النص زمنين:

أ- زمن الحاضر: وهو زمن عصيب موحش (وصف النهر مثلاً: يصفه المؤلف وصفاً يوحي بعدم الارتياح) إنه «زمن قاس بيده سوط. يسوقك من بوابة البيتِ إلى مستنقعِ الوظيفة، ثم إلى الشوارع والأمكنة الأخرى». وفي مقطع سردي آخر، يصف لنا السارد الشخصية هذا الزمن بقوله: «وكان أن جاء زمان عصيب لم نحسب له حساباً في ما مضى، زمان تساوى فيه الحب والكراهية، الإبداع والغباء، الانتهاز والثورة، وفي ذلك الزمان الفاجع، نمت الأعشاب الضارة وراحت تمتص الخصب والحب». ومن التقنيات الزمنية التي يستخدمها المؤلف في معظم فقرات المتن الروائي تقنية الوقف (Pause) فخلال سرد محكي ما يتعلق بشخصية من شخصيات الرواية، يحدث توقف مفاجئ في سرده، ليبدأ السارد محكياً آخر. مثلاً: محكي «ديانا» والحوار بينها وبين السارد الشخصية حول قضية الجنس، تتخلله ذكريات مع منى عبر ارتدادات زمنية متعددة، ثم يعود السارد ليقطع هذه الذكريات ويستأنف محكي «ديانا». يرى سعيد يقطين بهذا الخصوص أن «انعدام المؤشرات الزمنية التي تساعدنا على ضبط زمن القصة و»اللعب الزمني « الشديد التعقيد، كل ذلك يعطي للزمن في «الزمن الموحش» خصوصيته وفرادته.. ولهذا الطابع، يمكن اعتبار رواية الزمن الموحش «رواية زمن» فهي تفكير في الزمن وتشكيل زمني على مستوى الخطاب».

ب- زمن الذكرى: زمن الارتياح والفرح والسعادة والأمل.

الفضاء الروائي

من الجدير بالملاحظة أن الفضاء الروائي في بعض الفصول أو الفقرات السردية غير محدد في زمن الحاضر، أما في زمن الذكرى فهو محدد، لكن ليس بالوضوح الكافي. مثلاً: (ضاحية من ضواحي المدينة). إلا أن الفضاء العام في الرواية هو فضاء مدينة دمشق، ويصور لنا السارد الشخصية هذه المدينة حيزاً غير قابل لأن يحيا فيه المرء حياة سعيدة هادئة تسودها السكينة والطمأنينة. إنه فضاء قاس موحش مثل الزمن. يقول السارد: «في دمشق تبدو الأشياء حادة كحرف السكين، ثمة نذير تتوقعه يحدث في أي لحظة. وفي جميع النهارات والليالي نبتلع تلك السكين الواقفة في الحلق. السكين التي لا تسقط وتنهينا» إنه فضاء الألم والحزن والإحباط والهزيمة.

الوصف الروائي

من أهم الظواهر الفنية التي نصادفها في «الزمن الموحش» هي العناية الفائقة بالوصف، فلا نكاد نجد شخصية أو شيئاً أو مكاناً في كل فصول الرواية وفقراتها السردية، إلا ويتم وصفها. ونمثل لذلك بالنماذج التالية: «وراحت تثب فوق العشب كظبي آمن» / «فجأة كأننا انبثقنا من جلد الأرض»/ «كان لحمها نقياً لا غش فيه، وصلباً»/ « المكان كأنه ضاحية». والملاحظ أن المؤلف في هذه النماذج اعتمد في بناء جمله الوصفية على بلاغة التشبيه.

البنية اللغوية في الرواية

من أهم ما يميز رواية «الزمن الموحش» أن لغتها تتسربل بغلائل لغة شعرية باذخة، تقصر بعض القصائد التي نقرؤها اليوم عن الوصول إلى آفاقها البعيدة. أليس الشعر جديرا بأن يخفف عن النفس وطأة الزمن الموحش والمكان الموحش وعموماً غربة الإنسان في هذا الوجود القاسي؟

المستوى الدلالي

نكتفي في هذا المستوى بالملاحظات التالية:

أ- إن أصدقاء السارد الشخصية، يمثلون طبقة مثقفين يعانون من ترسبات الماضي: الكبت الجنسي التاريخي (تصفهم منى بالنهمين، تقول: « إنهم كانوا يحومون حولها ويطمعون في جسدها «) كما تصفهم بالممثلين الهزليين الذين يثيرون سخرية ومرارة، ويقر السارد الشخصية نفسه بذلك. يقول «نحن شرقيون».

ب- حضور الآخر الصارم الذي يقيد حرية الإنسان، خاصةً في المجتمع العربي التقليدي الذي يسوده القهر المجتمعي والقهر السلطوي. يقول السارد الشخصية في إحدى الجمل السردية (ولو رآنا أهلك معاً..). ولا يخفى أن الكاتب هنا يشير إلى أن هذا من العوامل التي تجعل الواقع واقعاً موحشاً شديد الضيق (الجحيم هو الآخرون حسب جان بول سارتر).

ج- الفروسية: فروسية الشخصية الرئيسة (البطل) إنه لا يخْفي زهوه وفروسيته أمام منى، وقد صاد طائراً ببندقية صيده، في حين أن ميدان الفروسية الحقيقي هو تحرير فلسطين.. تسأله منى: «أنت صياد حقيقي أم تمثل دوْر الصياد؟».

كاتب وناقد مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي