قمصان يوسف… مقاسات صالحة لكل أجساد اللغة

2023-08-25

نبيل مملوك

ليس مجرد تفصيل فني أو قرائي أن يعود القارئ العربي إلى تجربة قمصان يوسف الشعرية لشوقي بزيع (1951) ونقصد القصيدة بالذات عامود المجموعة التي أصدرتها دار الآداب، والتي حملت اسم القصيدة ذاته عام 1996، ولهذا النص أثر نقدي قلما يشار إليه، كون عملية التلقي سرعان ما تتبلور من خلال نقطتين الفنية الموغلة بإيقاعها والقصدية المسترسلة بأخبارها.. وعليه فإن من يعيد قراءة المقاطع الثلاثة من القصيدة التي فازت وسواها بجائزة عكاظ عام 2009، يعرف أن عزوف الشاعر، أقلها في هذه الفترة، عن كتابة الشعر واتجاهه نحو النقد وتفنيد حياة الشعراء وخساراتهم العاطفية ومكاسبهم ليس عبثا… فالقصيدة هذه مقدمة لنتاج شعري لا يخلو من النقد بدءا من اللغة وتكوينها الإيقاع وصولا إلى القصد ومتانته السردية.

اللغة وتكوينها الأسلوبي

يجنح بزيع في المقطع الأول من قصيدته الذي حمل عنوان «قميص التجربة» نحو القص فكان السرد المصحوب بنبرة خبرية، حليف الأسطر الشعرية «كلها الآن تسجد لك/ كلها تجثو على قدميك الإلهيتين» «وإخوتك اتحدوا مع قميصك/ ضد دموع أبيك» والصيغة الخبرية ليست وظيفتها التعريف بيوسف ومطلع قصته التي وردت في النص القرآني فحسب، بل تتجاوز الوظيفة نفسها لتكون محاولة شعرية للجنوح نحو سيرة دينية فردية لشخصية مقدسة، نحو سيرة تشمل الجماعة التي خلفت يوسف وزمن إخوته، وهذا ما يسوغ أيضا لجوء الشاعر باستمرار وفي غير قصيدة إلى التعبير بضمير المتكلم «أنا» حين يخاطب الآخر العزيز أو المميز، وفقا لذاكرتي التاريخ والوجود، ويتجلى ذلك في المقطع الثاني من القصيدة الذي حمل عنوان «قميص الشهوة»: «كأن دمي ملعب للوساوس/ بعضي يحارب بعضي» والضمير العائد إلى الأنا يفكك الحوارية الأحادية، ويبرز فنيتها في الشعر، حيث تسقط الهالة المقدسة المصحوبة بالوحي وتطفو الطبيعة الآدمية لتخاطب الكل الكامن في دواخلنا، خاصة أن النبرة الإيعازية «لا تصدق جمالك /صدق ظلالك فوق الجدار» في المقطع الأول أتت كسياق سردي إيعازي يضعنا أمام فرضيتين: إما نقد ذاتي تجريبي (ما بين العقل والعاطفة) لمسار الشاعر البشري، وإما يؤكد انسلاخ النبي عن نبوته الكامنة في لاوعيه والغيب في آن. صحيح أن تفعيلة «فاعلاتن» تساعد النص على النهوض بإيقاعه الخارجي وبالتالي منح اللغة ثقلها الموسيقي، لكن المضمون وتوظيفه التقعيدي أسهم في نهوض اللغة، وخلق الموضوع المختلف عن القصة المتعارف عليها بفعل التراث والمرويات المتوارثة.

القصد وإشكالية التلقي

من البديهي أن يلتقى القارئ «قمصان يوسف» بوعي ديني مهما كان اعتقاده أو توجهه الإثني، لكن سطور القصيدة، إما تمهد لإشكاليات، وإما تخلق إشكالية» فهذا الزمان الذي برأ الذئب/ من شبهة الدم فوق قميصك ليس زمانك» ففي زمن الدم والحروب الحاضرة من البريء الضحية الراضية بواقعها القاتم وبسفك دمها؟ أم الذئاب التي تنهش جماعاتها لتنمو غرائزها؟ ومَن يبرئ مَن اليوم؟ القاتل يبرئ ضحاياه من جريمته؟ أم الضحايا يبرئون قاتليهم بفعل الولاء اللاواعي؟ والأمور تنسحب نحو سلسلة اجتماعية اضيق وأضيق يحكمها الرئيس والمرؤوس، أو الصراع الطبقي بلغة ماركس.. والاشكالية الثانية تظهر في المقطع الثالث كنسق متكامل شامل، حيث اكتفى صاحب قصيدة جبل الباروك، بسرد نهاية القصة وإنصاف البشري يوسف بالنبوة والمُلك… لنسأل: كيف يسوغ الشاعر جنوح نهايته نحو السرد الشعري المحض؟ هل هي نهاية بمثابة انعكاس نصي، أم تمنٍ شاعري للبقاء على صيغة «محاولة قراءة شخصية يوسف من خلال القمصان» التي افتتح بها مؤلف «هجرة الكلمات» قصيدته…

الثابت على مرّ العقود أن عملية التلقي لهذه القصيدة، رغم إشكاليتها السرمدية بقيت تحافظ على إيجابيتها عبر خلق متلق إيجابي إما يقاربها من منطلق النص الديني بكشف الفوارق النصية، أو برسمها على جسد الحاضر وواقعيته انطلاقا من الشعرية وأدواتها المعروفة…

تبقى قصيدة قمصان يوسف صالحة لكل الأجساد اللغوية، ومرحبة بكل المقاسات القرائية، وكما قال خورخي لويس بورخي في مطلع محاضراته الست المعنونة عربيا بـ»صنعة الشعر» (بتصرف): إن كنتم تنتظرون مني تعريفا شافيا للشعر فلن أقدمه» وقصيدة شوقي بزيع لم تقدم رغم معانقتها للتاريخ والأدب والنقد والنقد الآخر، إلا محاولات رصينة لقراءة الواقع بأوجهه الزمنية الثلاثة.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي