دمشق بعيون راكبي الميكرو باص: يوميات نساء المدينة

2023-08-24

محمد تركي الربيعو

يروي لنا ميلان كونديرا في سياق تفسيره لانفجار الكتابة عن الذات، أنّ ما دفع الأوروبيين للكتابة عن حياتهم، التغيرات المتسارعة التي حصلت في القرن التاسع عشر، وهي تغيرات خلقت لدى الإنسان الأوروبي وعياً آخر بأنه لن يموت في العالم ذاته الذي وُلِد فيه، ما عنى إيذاناً بالدخول في عالم الوصف، لتوثيق التغيرات والتحولات. في السياق السوري، نلاحظ هذا الأمر، من خلال ظهور موجة من الكتابة عن الذات، والعودة لقراءة السير الذاتية، واللافت أيضاً على صعيد مدينة مثل دمشق، صدور كم لا بأس به في الآونة الأخيرة من كتب اليوميات التي دونها عدد من نساء المدينة.

خلال الحرب وانتشار الحواجز الأمنية، أصبحت الحركة أحياناً شديدة الصعوبة وبالأخص على الرجال، الذين غدوا معرضين للاعتقال في أي لحظة. في المقابل، شهدت البلاد في النصف الثاني من القرن العشرين مظاهر اجتماعية جديدة على صعيد حضور النساء في الفضاء العام، ووجودهن المستمر في داخله، سواء في الأسواق أو الجامعات أو باقي الأماكن الأخرى، واللافت أيضا أنّ هذا الحضور سيزداد بعد الحرب. ويبدو أنّ هذا لعب دوراً في تحويل النساء في المدينة إلى مراقِباتٍ للتحوّلات التي تعيشها المدينة خلال العقد الأخير. تكتبُ مثلاً سلوى زكزك على صعيد رصدها اليومي في منشوراتها على فيسبوك عن حالة الفقر في دمشق، وأسعار الأطعمة، وأحوال الناس وغيرها من التفاصيل. كما صدرت مؤخّراً محاولة أخرى أعدّتها يارا سمير الحسواني وهي معمارية، حاولت رصد تفاصيل من يوميات الأشياء، البيوت، الشوارع، في حي جرمانا في دمشق، وما شهدته من تغيرات بعد أن تحول الحي إلى مكان يعجُّ بآلاف النازحين منذ حرب العراق 2003 إلى أيامنا هذه.

كاتبات يوميات؟

عند الحديث عن كتابة اليوميات في دمشق، غالباً ما يُربطُ بين هذه المحاولات، ويوميات البدير الحلاق في القرن الثامن عشر. ربما للقول إنّ هناك تقليدا في الكتابة عن اليوميات في دمشق. مع ذلك، تبدو يوميات النساء اليوم وكأنها تنطلق من أسئلة وسياقات مختلفة تماماً عن سياق البدير، وإن كانت تجمعها ربما نقطة مشتركة، تتمثّل في حالة الفوضى التي تعيشها المدينة، تبدو المدينة في يوميات البدير مكاناً للصراع بين القوى المحلية والجماعات المسلحة المحلية والمركزية، ولذلك فهي تعاني من غياب الاستقرار ووجود والٍ قوي (باستثناء فترة أسعد باشا). لكن في المقابل، تبقى أحوال البدير «في اللوز» وفق التعبير العامي، إذا ما قارناها بأحوال دمشق في العقد الأخير، التي باتت تفتقد كل شيء، باستثناء الخوف، وانتشار الميليشيات الأمنية والحواجز.

عند السؤال عن خلفية النسوة اللواتي كتبن عن يومياتهن في دمشق، نلاحظ أننا أمام نساء قدمن من الطبقة الوسطى، وكنّ شاهدات على زوالها تقريباً في دمشق وباقي المدن السورية. تخرج معظمهن من الجامعات الحكومية.. بعضهن ما يزلن شابات لم يتجاوزن العقد الثالث أو أقل من ذلك. كما حلمت بعضهن بكتابة نصوص روائية، ووجدن لاحقاً في اليوميات مساحات بديلة تتيح لهن التدرّب على الكتابة، وأيضا وصف ما يعشن في داخله، خاصة أنّ الرواية تحتاج إلى وقت أطول للتأمل، والخروج قليلاً من عالم الضغوط اليومية، وهذا أمر قد لا يتوفّرُ بسهولة لمن يعيش في دمشق.

اليوميات وصورة المدينة

هنا قد يُطرح تساؤل، هل تشكّل هذه اليوميات صورة جيدة عما تعيشه مدينة دمشق اليوم، وهل بالضرورة تعكس الواقع كما هو؟ ولعل الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى مزيد من التأمل، والمقارنة مع أبحاث ميدانية أخرى. مع ذلك، يُحسب ليوميات النساء في دمشق، تمكّنها من التقاط صور صغيرة عن الخراب الذي يغزو المدينة وشكلها. لعل هناك عبثية أحيانا في التقاط هذه الصور، مع ذلك فإنّ هذه اليوميات القلقة في التقاط اليومي، تبدو قادرة على نقل الإحساس والصوت والرائحة ورسم صورة أخرى عن وجوه السوريين وأجسادهم في السنوات الأخيرة. ما يُسجّلُ عليها في المقابل، افتقارها إلى محاولة عقلنة الخراب الذي ترصده. ولذلك نراها تلتقط صورة معبّرة وجيدة، تلهث وراءها قليلا، تتعثّر بحجارة مشهد آخر، تترك المشهد الأول دون إكماله. وقد يعود ذلك لكون كتابة اليوميات، لا يمثّل بالضرورة، لكتابها، مشروعاً أدبياً، أو لأنّ المشهد الذي يعشن فيه فوضوي ومتشابك يصل لحد الجنون. وهذا ما يجعلهن غير قادرات على المضي قدماً في فهم عوالم الخراب هذه. فهن يعشن في سيرك، لكنه سيرك قصير، يشارك فيه مئات الأشخاص كل يوم، ولا وقت لمتابعة كل شيء.

الحياة في ميكرو باص

اللافت في يوميات النساء في دمشق، قدرة كاتباتها على مراقبة المدينة من زوايا جديدة. وسأشير هنا إلى يوميات المحامية الشابة براءة الطرن (أربعة عشر وجها حزينا) ويوميات المخرجة المسرحية آنا عكاش (يوميات الحرب 2013 ـ 2018). في هذه اليوميات لدينا سيدتان تعيشان في دمشق، وتحاولان رواية ما جرى في المدينة من خلال يومياتهن في الميكروباص الأبيض. هنا يتحول الباص الصغير في المدينة إلى مخبر سوسيولوجي، وفق تعبير الطرن، وأداة لفهم السياق اليومي للمدينة خلال الحرب. حظي موضوع رصد تحولات المدينة من داخل التاكسي باهتمام السينما. وفي هذه الأفلام، يتحول السائق إلى بطل يروي قصة المدينة وتحوّلاتها. وهذا ما نراه مثلاً في فيلم (Taxi Driver) «سائق التاكسي» والذي يتناول قصة سائق سيارة أجرة وحيد عاد لتوه من الحرب في فيتنام، يرصد لنا حالة الانحدار الأخلاقي في مدينة نيويورك. يحكي أيضا فيلم «ليلة على الأرض» عن خمس قصص مختلفة من خمس مدن مختلفة. وهذا الرصد لليومي بعيون سائق التاكسي، نراه في حياة دمشق قبل الحرب، من خلال مسلسل «أبو جانتي» الذي حظي بشعبية واسعة. ويروي المسلسل يوميات سائق تاكسي في مدينة دمشق. وفي كل حلقة نكون أمام صورة من حياة الناس والمدينة، والمشاكل التي يعانون منها، بأسلوب فكاهي. أما مع يوميات براءة الطرن وآنا عكاش، سيتغير المشهد قليلاً، لصالح الركاب هذه المرة، الذين يتولون مهمة مراقبة المدينة، عبر شبابيك الميكرو، ومن خلال عيون ورائحة وكلام الركاب أنفسهم.

قضت الطرن عدة ساعات ولمدة خمس سنوات في ميكرو باص مزة جبل. كان الميكرو باص قد دخل شوارع المدينة قبل 2011 كحل بديل عن المواصلات العامية الحكومية، ولذلك شكّل قدومه فرصة جيدة للطبقات الوسطى والفقيرة للتحرك في المدينة وضواحيها بشكل أفضل من السابق، خاصة أنّ أعدادها كانت في تزايد مستمر، لكن بعد اندلاع الحرب، وانعدام الوقود، وانتشار الحواجز، وانقطاع الطرقات، لم يعد عالم الميكرو باص سهلاً كما في السابق، بل غدا عالما معقداً ومأساوياً، يستنزف كل يوم من حياة أفراد المدينة عدة ساعات، ريثما يمكّنهم من الوصول لمنازلهم. عكست هذه التعقيدات في عالم المواصلات والميكرو، حالة الفوضى التي باتت تعيشها البلاد. وهذا ما ستلاحظه الطرن، التي ستتحول إلى إثنوغرافي يحاول رصد واقع المدينة من خلال وجوه الركاب، وأيضا من خلال محطات الميكرو والمواقف التي يحمل منها الركاب. من بين هذه المحطات، سترصد لنا محطة أو كراج العباسيين، الذي أصبح نسخة مصغرة عن واقع دمشق وخرابها. في هذا الموقف تقف طوابير كبيرة من البشر «جميعهم يديرون ظهورهم لبعضهم في توجّس، لا تواصل بصري في زمن الحرب التي تفقأ العيون وتقطع الألسن». وعند نيل فرصة الركوب داخل الميكرو، بعد التدافع على بابه، في معركة لا تسودها أي قواعد أو قيم حول الكبار أو الصغار، نعثر على صورة أقرب عن شرائح واسعة من سكان دمشق وأجسادهم التي أكلها الجوع. أجساد تبدو هزيلة، مع وجوه شاحبة وعظام صدر بارزة.

لا شيء يميز ركاب هذه المواصلات مقارنة بأيام الزمن الماضي، إذ يرتدي الجميعُ أشياء بسيطة، كنزة، أو معطفا قديما، حتى رائحة الركاب تغيرت، وأصبح شمّ رائحة لطيفة من الأشياء الغريبة «شاب مزهو بنفسه شعره مسرّح بأناقة لا تليق بالميكرو، رائحته عطرة». بات كل شيء يتعلّق بالصحة والمظهر العام، لا ينتمي لهذا العالم. في إشارة للتحوّل الذي عرفه مسار الطبقة الوسطى في المدينة، التي أبدت في الفترة بين 2000-2010 إقبالا أكبر على تفاصيل تتعلّق بالجسد وارتداء الموضة الجديدة، قبل أن تأتي الحرب لتجعلها تنحدر نحو الحضيض.

في يوميات آنا عكاش، لن يختلف المشهد كثيراً على صعيد الشعور بخراب المدينة. تعمل عكاش مخرجة مسرحية، ولذلك تظهر في يومياتها أكثر إدراكاً لموقعها كمراقب، لكنه يظل مراقبا قلقاً «أراقب وجوه أصحاب الدكاكين، لا أستطيع قراءتها، لديّ خلل في الاستقبال.. ربما بسبب الإرسال المشوّش أيضاً، فأتذكر نظرية التلقي في المعجم المسرحي». تبدو هنا قريبة من ملاحظات أرفنغ غوفمان الذي لا يرى ثمة فرق كبير بين المسرح والحياة اليومية، وأنّ تشبيه المسرح في التحليل سيمكننا من فهم التفاصيل الدقيقة والخفية في حياتنا.. تبدأ يومياتها من 2 أيلول/سبتمبر 2013، وهي فترة عاشت فيها البلاد أحداثا عديدة على وقع استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي في الغوطة. تزحفُ الفوضى للمدينة، من خلال تحول شوارعها وأرصفتها إلى أماكن لمصلحي السيارات، كما يصبح السوريون في هذه الفترة بارعون في الترميم. يُسرعون في ترميم كل شيء خلال الحرب؛ شبابيك، أجسادهم، أسنانهم «أي شي يساعد على تمشية الحال كما يقال». تدرك عكاش أيضاً أنّ الميكرو باص أصبح أحياناً هو المسرح البديل المعبّر عن الحياة في دمشق، بدلاً من مسرح القباني الذي تعمل فيه، ولذلك تقرّر التقاط تفاصيل عديدة من حياة الناس وهي جالسة في داخله. مثل ظاهرة سائقات الباصات، في إشارة لدور الحرب في تغيير وظائف النساء والرجال في الفضاء العام. تلتقط كذلك صورة أطفال المدارس، وعلى ظهورهم حقائب كتب تحمل شعار اليونيسيف، في إشارة أيضاً لتحول مجتمع كامل في داخل دمشق إلى مجتمع فقير يعيش على المساعدات. تبدو حركة عكاش في يوميات المدينة محدودة بين جرمانا وشوارع دمشق القديمة. لكن ذلك يعكس محدودية حركة السكان في المدينة في السنوات الأخيرة. لا تخفي حنينها لماضي المدينة، وهو حنين يبدو أنها توظفه علها تتمكن قليلاً من التوازن النفسي في ظل الشعور بزوال وخراب كل شيء.

في مقال سابق (حكواتي الليل) أشرنا إلى تمكّن بعض الروائيين السوريين من هزيمة الاستبداد رمزياً من خلال حكاياهم عن تراث المدينة ومجانينها. بينما تبدو نساء دمشق، في يومياتهن، عاجزات عن الخيال. ربما هو الاقتراب من الواقع مقارنة بالرجال الذي أُجبِرُوا على الفرار منه.. لكن ما الذي يعنيه ذلك على صعيد المدينة ومستقبلها؟

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي