الصوت ومركزية الحدث في رواية «لست كما يدعون»

2023-08-20

علي لفتة سعيد

يلعب آريان صابر الداوودي في روايته «لست كما يدّعون» من باب العنوان. الباب الكبير الذي سيدخل منه المتلقّي إلى مدينة الرواية، البحث عن تفاصيل هذه المدينة السردية تبدأ من هنا.. ليس فقط عتبة العنوان ضمن العتبات النصيّة الأخرى، بل هو أيّ العنوان البوابة الكبرى الذي يضع مع ظلفتيه الكثير من العتبات، التي تبدأ بالإهداء والمقدمتين اللتين سبقتا الترقيم، بهدف جرّ المتلقّي إلى فهم ما يأتي بعد العنوان حين يضع سرداً خارج المتن، كما يريده المنتج، لكنه سيصبح الخطوة الأولى بعد دخول المتلقّي، حيث يضع بضع كلماتٍ تبيّن عملية التأويل الكبرى التي تلحق بخاصية القصدية الروائية للحكاية والفكرة، فهو في عتبة المدخل وضع مقولة (عن راوي هذه الرواية، قال: حدثني أحد المتّهمين بالجنون قائلا..) ولهذا فإن أوّل التقسيمات التدوينية ولعبتها سيكتشف المتلقّي أن هاتين المقدّمتين لو صحّت تسميتهما سيكونان المهاد الأول لبقية العتبات والقصديات التي ترتبط كلّها بالعنوان.

إن اللعبة التي قادها المنتج الداوودي بهدف أن يكون كل شيء تحت سيطرته، الحكاية وما يحيطها من شخصيات وفعل درامي ومكان. الفكرة وما يتفرع منها من صراع واجتماعيات وتنافر وأسباب ترتبط بالسياسة أو العادات. ولهذا نجده قد انتهج أسلوب الحكي غير المستقيم عبر ما يطلق عليه (الهذيان) أو الحديث مع النفس أو الراوي الذي يريد البوح بكل شيء ولهذا فإنه لم يجنح إلى أن تكون هذه الهذيانات تتخذ من السلوك السردي بطريقة واحدة. فهو مرة يستخدم أسلوب الغائب ومرة أسلوب المخاطب ومرة أسلوب المتكلم، وفي كل هذه يتحول القسم الواحد الذي يبدأ به بأسلوب محدد ليتخذ من الأساليب الأخرى طريقةً لإنتاج المتن الروائي عبر تدوينٍ لا يتغيّر في التعبيرات اللغوية، كونه يستخدم لغةً واحدةً باعتبار أن البطل واحدٌ يوجّه الشخصيات المرتبطة به لتدور حوله، وإن أرادها أن تكون هي المركز وهو المحيط الذي يدور حول كلّ الأشياء.

إن اللعبة التدوينية بدأت حين جعل مفتتح الرواية كأنه يلعب لعبة السينما، حين يعمل المخرج على جعل لقطات الفيلم تبدأ قبل عرض التايتل السينمائي. فكانت كتابته مقدّمة ثانية، وهو بهذا أراد أن يجمع حاصل جمع المقدّمتين لتعطيا المرسال الأوّل لتفكيك العنوان من جهة، والاستعداد للدخول إلى مدينة الرواية، عبر تقسيمها إلى ثلاثة عشر قسماً. وهنا يذهب المتلقّي إلى معقولية وفعالية هذا الرقم من الناحية السيكولوجية من جهة، وتأثيره في بطل الرواية بعد الانتهاء من قراءتها، وهو ما جعل المقدّمة الثانية تسبق الترقيم، لكي يبقي الرقم في قمّة التفكيك السيميائي من جهة، والمستوى التأويلي من جهة ثانية، خاصة أن منسق الرواية، وربما يكون بالاتفاق مع المنتج/ الروائي قد جعل الحرف في المقدّمة الثانية يختلف عن شكل الحرف في الرواية، حين جعله بنوعٍ من خطّ آخر وبصورةٍ مائلةٍ، وكأنه يدخل في لعبة المماحكة ما بين الشكل والقصد وينبّه المتلقّي والقارئ معا أن عليه استبطان قصدية اللعبة.

سردية الصوت

إن اللعبة التدوينية لم تتغيّر من الناحية البنائية، وإن اختلفت من ناحية استخدام الصوت من قبل الراوي الذي جعله عليماً، وهو الذي يقع تحت تأثير ما يطلق عليه الرواية المونولوجية، التي تتخّذ من الصوت الواحد ومن التصاعد البنائي الذي لا يصل إلى القمّة، بل إلى السطح الأخير، وهو ما يعني تشابه البناء العمودي والأفقي معا، ليعطي شكلا واحدا. لذا هو يبدأ الرواية بطريقة المخاطب في قسمها الذي رقم برقم (1) معلنا عن وجود شخصيتين الراوي والمروي له (يا سيّدي الطبيب/ أكلمك هنا بصراحة تامة ومودة خاصة، حدّق في عينيّ جيدا، ستجد إن كنت كما أدعي… أم كما يدّعون؟) هذا الاستهلال هو المنطقة الأولى التي يلتقي فيها المتن مع العنوان. وهو أراده أن يأخذ عدّة نقاط.

الأولى: إنه استهلال العتبة الأولى، وبعد باب العنوان الرئيس، الذي يتوّج مهمة تقشيره في تلك القيمة الاستهلالية بين الطبيب/ المتحدّث له.. والمريض الذي يتحدّث، ليكون السطر الثاني على علاقة بالعنوان الذي يتحوّل من كونه وصفاً إلى سؤالٍ وعلى المتلقّي البحث عن الإجابة في ما بعد.

الثانية: إنه استهلالٌ يقفز من علو العنوان كمرآة وثريا النص، حسب الراحل محمود عبد الوهاب، إلى منطقةٍ مضيئةٍ تسهل مهمّة المتلقّي ليعرف إلى أين سيسير في عملية تلقّيه.

الثالثة: إنه استهلالٌ سيربطه المتلقّي مع المقدّمتين اللتين سبقتا (تايتل الرواية) والدخول إلى أولى عتباتها، بهدف زحزحة التلقّي والمراوغة لقبول ما سيأتي من حكايةٍ بهدف البحث عن الفكرة.

ولأن الرواية تعتمد على طريقة صوت الراوي، فإن الحكاية فيها أخذت عدّة منعطفات من أجل ألا تبعد عن واقعيتها، فجعل الجنون هو صنو العقل، وجعل الصوت هو صنو الهذيان، وجعل الطبيب هو صنو الأزمة، وجعل الشخصيات الأخرى هم صنو المعالجة والمشكلة معا، بدءاً من الأب والمرأة، وما يرافقها من الاستعانة برجال الدين (الملّة) الذي يستخدم الشعوذة كلجوءٍ أخير للحل من الجنون، وهو في كلّ هذا يريد القول إنه ليس كما تقولون أيها الناس الموجودين في الحكاية، من أجل أن تكون الفكرة عبارة عن ضنك الحياة وتحشيد مشاكلها داخل إنسانٍ يريد العيش بعيدا عن كل شيء إلا الجمال، لعلّه يخرج من قبح هذه الحياة، خاصة أن العمر الافتراضي للبطل/ المريض/ الذي لا يكون ما يدّعون به.. طالب وقسم داخلي ومدينة كركوك وزمان ما بعد عام 2003 حيث المتغيّر الأكثر قسوة على البطل، وهو هنا زمنٌ وتاريخٌ مقصودٌ أراده أن يشكّل عتباتٍ قصديةً أخرى. ولهذا لجأ إلى أسلوب المخاطبة لتبيان كلّ هذه العناصر التي تفتّت المنولوج وتعطي مفهوما للواقع الاجتماعي الذي انحدر منه، والذي يريد أن يعطي ملامحه بأسلوب الاعتراض الذي أدّى به إلى أن يكون في نظر الآخرين غير ما هو عليه. لذا فتحمّل كل هذا ليلجأ في الأخير إلى الطبيب للحديث عنه. ومن هنا جاء أسلوب الصوت المباشر. الحديث إلى آخر وهو ما جعله يرسم عدّة سبل من أجل إعطاء الروح للنصّ السردي من ناحيتي الفكرة والحكاية.

الأوّل: إنه سبيلٌ يمنحه القدرة على المطاولة بقدر ما يريد، وإعادة الجملة التي يعتقد أنها مركز الموضوع مثلما يكرر (أتفهم يا دكتور.. حسنا يا سيدي الطبيب.. أرجو أن تفهمني) وهي نقطة التحوّل من موضوع إلى آخر داخل المتن الواحد، أو القسم الواحد من أقسام الرواية.

الثاني: إنه سبيلٌ يمنح القصص التي تحوّلت إلى منظومةٍ سرديةٍ متعدّدة الأقطاب، لكنها تصبّ في بوتقةٍ واحدةٍ وهي الحديث مع النفس/ الآخر في متون متعدّدة ترتبط بالحياة والاجتماع للبطل.

الثالث: إنه سبيلٌ يمنح اللغة ذاتها أن تأتي بقدر ما يريد وكيف يريد، لكنه جعله هو القوة المحرّكة للمتن الحكائي، ما أضعف بشكلٍ ما المبنى السردي بوجود التكرار.

الرابع: إنه سبيلٌ منح الصوت/ الراوي إلى القدرة على التحكّم بمفاصل العليّة السرديّة كلّها والتحوّل من الحديث مع طبيب إلى الحديث مع المرآة على أنه طبيب، وبالتالي وضع عنصر المفاجأة للمتلقّي في التحوّل البنائي من أن الأمر هو حديثُ شكوى مع الأنا /الآخر.

محرك المستويات

إن اللعبة التدوينية في الرواية أخذت عددا من المستويات السردية لتكون هي المهيمنة والمسيطرة التي ناور بها، من خلال لغة الصوت الواحد بطريقة الهذيان المواجه الذي يشبه الاعتراف مع الذات، كلما اشتدّ به الحال من وصف الآخرين له بما ليس هو فيه، ومن هذه المستويات..

أولا: المستوى الإخباري الذي كان القوام الأوّل للمتن السردي، ومن خلاله ينطلق إلى تفكيك العناصر الأولية للحكاية، التي سارت على الطريقة ذاتها (في غرفتي، لم أستطع أن أغمض عيني، لا أعلم يا دكتور، أنا ابن الحاج حسام، كيف سمحت لنفسي أن أشرب المحرمات؟).

ثانيا: المستوى التحليلي وهو المستوى الذي يبرز بين الفينة والأخرى منازعا المستوى التصويري الذي غاب عن الواجهة الفعلية في وصف ما يمكن توصيفه وتصوير ما له علاقة بالمكان أو الزمان.. (لم تكن سجى، بعيدة عن الزي الموحد، كانت أكثر أناقة، وجمالا، حتى انجذابا).

الثالث: المستوى القصدي وهو المستوى الذي أراده أن يأتي مرّة عن طريق الحوار الذي جعله باللهجة العامية، ليكون عنصرا مهمّا في التحوّل من صوت الهذيان مع الطبيب/ الذات، إلى الذات/ الآخر المرتبط بالحدث، مثلما أراده أن يكون محطّة قطع الهذيان والتحوّل إلى الماضي في لعبة تبادل الزمن والمكان بالانتقال السردي.

(لم أفهم مغزى كلامه، طلبت منه التوضيح، فقال:

– آخذك لمكان… ترتاح بيه.

سحبت شهيقا، وقلت له:

– هو آني أدور راحة؟

صمت قليل قبل أن أضيف

– وين نروح؟

قال وهو يهمس في أذني:

– شعليك… آخذك لمكان ترتاح بيه).

إن اللعبة التدوينية في هذه الرواية أخذت من خاصية الصوت المباشر لتكون هي أعلى المستويات، لبناء الحكاية الاجتماعية والفكرة التي انبنت منذ البدء، حين كشف عنها (بل أصبح كهواية لبعض الأفراد، يدعون كل شيء، وأي شيء، طالما ذلك لا يطلب مبلغا ماليا، ولا جهدا بدنيا، بل أكاد أجزم أن المشاكل التي تدار حولنا أغلبها بسبب ( الادعاء)… ويا مكثر الإدعاءات).

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي