مفارقة المناضل المغربي… قراءة في «أفول الليل»

2023-08-19

عبد الوهاب الحراسي

«أفول الليل ـ يوميات من سنوات الرصاص» كتاب سردي ينتمي إلى أدب السجون، للمغربي الطاهر المحفوظي، صادر عن مطبعة القرويين، الطبعة الثانية 2006. ولا ندري متى كان صدور الطبعة الأولى، لكن المؤلف ذيل مقدمته بتاريخ 2004.

لعل الفرق بين مذكرات السياسي ويوميات المعتقل سياسيا أن المذكرات قد تحمل في بطنها، ولو جزءا يسيرا، على تجربة الاعتقال.. وقد لا تحتوي بالضرورة؛ لكن اليوميات أو المذكرات للمعتقل السياسي تشمل، بالضرورة، دورا سياسيا مهما كان يسيرا. فالأصل في تجربة السجين هو السياسة بينما الأصل في مذكرات السياسي، مجهول. ذلك الفرق ليس هينا.. لأنه سيكون مدار صراع على أولوية الاستحقاقات الممكنة، التي غالبا ما كانت رمزية. وذلك ما حدث، بالفعل، في كل تجارب نضالات اليساريين العرب.

كانت المغرب واحدة من الدول العربية التي قاومت وحاربت، بل قضت على نضال أبنائها في تحقيق النظام الاشتراكي والمساواة والعدل. اعتقل الطاهر محفوظي في 331973. وتم الإفراج عنه مؤقتا في 2841975، حوكم مع 42 شخصا في 481976، ونال البراءة من التهم: «المؤامرة بقصد قلب النظام الملكي، وتعويضه بنظام جمهوري اشتراكي، والمس بسلامة الدولة الداخلية» إلا أن الطاهر، في «أفول الليل» يعترف بتلك التهم أو أنه، على الأقل، لم ينفها. وإذا عرفنا أن تلك الاعتقالات تمت في سياق حدثين رئيسيين هما عمليتي الانقلابين الفاشلتين عامي 1971 و1972، ثم أضفنا إلى ذلك تقليل الاعتبار لمدة الاعتقال.. حيث إن عامين لا يشكلان شيئا أمام من عانوا عقودا من التغييب والتعذيب؛ الأمر الذي يجعل من واقعة اعتقال الكاتب ورفاقه مجرد هامش ونافلة؛ فإن عالم وعتبات ووقائع «أفول الليل» قد جاء محاولة ومطالبة بأهليته بأن يكون مركزا لا هامشا، أصلا لا فرعا.. كواحدة من الأحداث المركزية والأصلية في تاريخ المغرب المعاصر. يفصح عن ذلك سكوت الكاتب التام، أحيانا، وشبه التام عن أي امتداد أو ارتباط من أي نوع لتنظيمه اليساري الذي ينتمي إليه هو ورفاقه بالحركات و/ أو التنظيمات النضالية السابقة لتنظيمه أو المعاصرة له. ويفصح عن ذلك، أيضا، التوثيق الذي نجده في عتبة «رفاق النضال، رفاق الألم مرتبين حسب منطوق الحكم» حيث سرد الكاتب، في جدول، اسماء 43 شخصا، وتاريخ ومكان المولد، وعنوانه الحالي، واسم محاميه.

في متون العتبات

في مجمل العتبة الكبرى «أفول الليل» يرحل القارئ إلى مغرب سبعينيات القرن الماضي، ليتعرف على مدنه والعديد من قراه النائية الطافية على بيئة قاسية، الرازحة تحت فقر مدقع.

وخلال الرحلة سيلمس القارئ – خاصة المشرقي – السمة العامة في التداولية المغربية بالصفات هذه:

ـ قوة وحدة الألفاظ ( دلاليا وصوتيا)

ـ قطعية التعبير.

ـ تقطيع الجمل إلى عبارات.

ـ الولع بالتكنية (اسم الفاعل للكنية ) وكثرة المجاز.

في مقابل ذلك.. ثمة سمة خاصة بالكاتب تجتاح معظم متون العتبات؛ فهي تفور بلغة الخطابة، والشعاراتية والوعظ النضالي. يزخر الفضاء السردي -الذي امتد إلى 340 صفحة – بعشرات العناوين أو العتبات، بل 136 عتبة. قد يكون الكاتب مولعا بالعنونة! لكنها تكنيك فعال: يبقي القارئ مع مقروئه.. يثير فضوله، ويستمهله من الملل. ومعظم تلك العتبات توثق لعامين من معاناة الطاهر – مع رفاقه – قسوة العذاب والتنكيل والإذلال والتجويع والانتهاك والانهاك النفسي. ويكفينا تشبيه الكاتب لنوبات الألم، في جلسات تعذيبه، بجموح إقلاع الطائرة وتحليقها. فهو ينفصل عن العالم، وحيدا، لا يعرف متى وكيف سينتهي هبوطه؛ كما أن لا أحد يراه حين يقلع وحين يهبط. إن مغزى ذلك التشبيه هو هذا: مهما كانت معرفتنا وخبراتنا المشتركة وقدرتنا على تصور الألم الجسدي إلا أنه (أي الألم) يظل خبرة شخصية وتجربة ذاتية؛ لا يمكن مشاركتها أو تقاسمها مع أحد. عامان وهو يقاوم.. ويرفض الإفصاح عن تنظيمه وعن أسماء رفاقه، وقد خرج.. محتفظا بأمانته كاملة سليمة، ولذلك، ربما، احتفى السرد بالعذابات.. كما عتبة «قراءة الصحف». يلتقي القارئ بنصوص تتدلى تحت هذه العناوين: «جرد ثروة» «مجرد معاينة» «إشراقة يوم جميل» «مقارنة» «قرنفلة لشبونة..»؛ وكلها عتبات لنصوص يصر الكاتب على أنها شعر؛ لكنها، بمعايير النقد – وعلى نحو خاص – السبعيني، نصوص تطبق عليها الركاكة فنيا وتصويرا.. إلا أنها في لغتها وأسلوبها قد تقود القارئ إلى الشعر المترجم، خاصة الأعمال الشعرية لناظم حكمت! وفي المقابل تستوقف القارئ قطع سردية رائعة ومائزة، كمثل: فتنة الأماسي، الساحة الحمراء، البيدر.. حمارنا الجدير بالاحترام؛ حيث نشهد صور حية لوقائع في حياة الكاتب، لكنها صور موحية ولماحة في الوقت ذاته.. وعلى العكس من ذلك تبدو لنا القطعة «تفتح برعم أم فم تبسم» منعزلة عن وظيفية سردية الأفول.. لكنها قطعة رومانسية بديعة!

وتجيء القطعة السردية «إليك ما لم أجرؤ على قوله» بسيطة، بلا تكلف، لكنها مثقلة بنجوى حزينة، واعتراف جذل، وشعور بالفقد ما إن يحل حتى يلهج الطاهر بذكرى أخيه وكأنه يصلي.

وجاءت القطعة المسماة: «المنع من السفر بعد ربع قرن من البراءة» بمحتوى سردي مغاير. حيث نشهد في واقعة واحدة وحيدة شيئا من القوة، شيئا من الندية والثقة والنصر والخلاص واعتبار الذات.. بعد أن قضينا، في الفضاء السردي الحافل بالمعاناة والعذاب والهزيمة والذل والتذمر والظلم والقسوة والضعف والعجز والمهانة والشعور «بالفراغ والانكسار والضياع»؛ ومن أجل كل ذلك وبعد كل ذلك يأخذنا الكاتب إلى ذروة سردية أفول الليل.. يمكن وصفها بأنها مجزوءة فلسفية عنوانها: «أيها الرفيق الجلاد تعال لنتصالح». كما أنها أهم جزء.. فهو ملخص كثيف لكشف حساب يشهره الضحية (الطاهر) في وجه الجلاد. وقد انتهى حاصل جمع الحساب بالحقيقة النفسية والأخلاقية الواقعية هذه: لن أسامحك. آخر العتبات: «فوق تلك الربوة تستريح» كانت خاتمة غير متوقعة، كونها شذت عن لغة الخطابة وألفاظ وصيغ شعارات النضال التي استبدت بالكاتب والقارئ، معا، في «أفول الليل»؛ فهي قطعة أدبية مؤثرة، تنهي سيرة الطاهر بحنين جارف ويقظة خاطفة، كاوية عميقة عصفت به.. وهو ينظر إلى قبر والدته:

«ما ضر الزمان لو عادت مرة واحدة، لسويعات فقط، لأبوح لها بحبي، لأقبل الجبين المكابر، أزيل عنه العرق والغبار، أغسل التراب العالق برجليها، أحرس الحلم في عينيها كي تستريح…». هذه النهاية، وحدها، تُفهمك معاناة الشعب المغربي في ذلك الزمن.

مفارقة كبرى

نجدها في أن المناضل المغاربي يقاتل المحتل الاقتصادي الرأسمالي الفرنسي المتحالف مع دولته المستبدة العميلة، وينتهي، هربا من الثاني، إلى اللجوء للأول.. ومصادقته وتلقي المساعدات منه، والاستعانة به في حقوقه الإنسانية. ولئن كان نظام الحكم المستبد والقامع.. هو عدوه وعدو وطنه وشعبه فإنه يرى الفرنسي المستعمر والعنصري*، لكنه (أي الفرنسي) أيضا، الصديق والمساعد** في الوقت ذاته!

كاتب يمني

* «كان (أستاذ الفلسفة رامون) أصلع، قصير القامة، تراه أمام المراحيض يفكر وكأن كل قضايا الإنسانية وما وراء الطبيعة تناديه كي يجد لها حلا فلسفيا مقبولا… لم نكن نستفيد منه كثيرا، زيادة على ذلك كان يمينيا!.

« جاء خبير من كندا لإلقاء محاضرة حول اللغة، وكان مفادها أن لكل دولة أن تفخر بلغتها الفرنسية، فلفرنسا لغتها وللسنغال فرنسيته وللمغرب مثلها.. وهنا تدخلت لأسفه مقولته الاستعمارية المبطنة وأطروحته الكولونيالية المقيته ـ ليس هناك إلا لغة فرنسية واحدة وبالنسبة لنا فهي لغة ثانية، وهي لغة الاستعمار».

** « (كي مارتيني) كان أستاذي بعد مغادرتي لقسمه، احتفظت بصداقته المتينة ووفائه النادرين… إذ كان يساعد بماله، ودراجته وكتبه وتحاليله… خدم الجميع بنكران ذات كبير».

«تدخل الأستاذ كي مارتيني لدى أحد رفاقه الفرنسيين من قدماء المحاربين، وهو مستشار لدى الإدارة العامة، فشغلني بالمديرية التجارية قسم التقنين والتعرفة».








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي