في ديوان «كأني هنا» للفلسطينية إيمان زيّاد: الأنا في غيوم اللغة

2023-08-18

رامي أبو شهاب

ثمة في الكتابة الشعريّة الفلسطينية ملامح تكاد تكون أقرب إلى نسقٍ لا واعٍ، يتخلل البنى النصية بداعي التجربة والتاريخ، مع استبعاد التعميم المطلق، ومع ذلك يمكن ملاحظة سمات تكاد تكون شبه مشتركة في هذه الذات، على الرغم من التمايز بين الأجيال، ومواجهة الوقائع، والتجربة، كما اختلاف السياقات، وتعدد الأمكنة، فالكتابة الفلسطينية حتى في ارتهانها للذاتي المتنازع مع الجمعي دائمة التعبير عن حدود الذات والعالم؛ بمعزل عن قيم المباشرة مع شيء من ظلال الاقتلاع، والنفي، وذاكرة الأرض، وغير ذلك.

إلى حيث لا أنا

يمكن أن نلمح أحد أهم النماذج الشعرية على مستوى التكوين الثقافي، في تسلل تموضع الأنا في المكان الذي غالباً ما يحيل إلى نموذجين متناقضين، أو متعارضين: الأول التمركز، أو التشبث، والثاني التعبير عن لا يقينية الوجود، بغية إبراز فعل تعويم ذات في أمكنة لا على المستوى الجغرافي فحسب، وإنما في وعي الداخل، والإدراك لحدود العالم. وهذا ما يمكن أن نراه في مجموعة الشاعرة الفلسطينية إيمان زيّاد في مجموعة حملت عنوان «كأني هنا» وقد سبق للشاعرة أن أصدرت مجموعتين هما: «شامة بيضاء» 2015، وماذا لو أطعمتك قلبي» 2017. يلاحظ بأن «كأني هنا» ينطوي على شيء من افتقاد اليقينية تجاه الوعي بالذات تبعاً للمكان ظاهرياً، غير أن هنا ربما تحيل إلى سياقات متعددة مفتوحة، أو قابلة للتأويل، بل إن القيمة تكمن في الترابط الدلالي بين مفردة كأني، التي تحيل إلى الأنا غير المتيقنة من موقعها، ولاسيما في ظرف المكان غير المتعين، فإلى أين تحيل (هنا)؟ ربما العملية برمتها تحيل إلى تموضع الوعي لذاته؛ ولهذا يمكن أن نقرأ سلاسل من التكوين الشعري المبني على قصيدة نثر، وفيها نرى أن الذات تبدو متعددة، كونها تسعى لأن تقيم نوعاً من الانسجام، غير أنها تفشل. هذه الذات غالباً ما تكون مسكونة بحوار مستمر وطويل مع ذات أخرى، كما نلاحظ في قصائد عدة، فتكثر صيغ المخاطب، ولا سيما (كاف المخاطب) التي تبرز لاستكمال الأنا، أو ربما تكون تتمة لما يكمن من فراغات، غير أن تلك المحاولات لا تكتمل.

ضمن مرجعيات متعددة للجغرافيا، نقرأ المكان في مستويات متعددة، وهنا نحيل إلى فلسطين: سلاسل الشهداء.. والاستغراق بمحاولات تتعالق مع الحب والحياة، والموت والفقد، والخيبات المتتالية، فيمضي إيقاع القصائد أشبه بيوميات تُعبر عن ذات ثانوية، تجد قيمتها عبر البحث بين ثنايا الأشياء غير المكتملة أو المبتورة؛ ولهذا يمكن تبرير ذلك الافتتاح الاستهلالي للمجموعة، بأن تكون الأرض استغراقاً:

إليك دونَ الأرض أجمع نصفي

وأعدو مع الريح

بلا منتهى

لا أرض ترثنا يا صديقي

ولا وجهة

ولا حباً،

نلاحظ في المقطع السابق هيمنة صيغة النفي التي تؤكد استحالة الوصول، بمعنى نفي الاكتمال، أو نأي الأرض، وفقدان الوجهة.

تشتيت مقصود

تستمر محاولات خلق مناخات الذات ضمن وعاء المستتر والكامن، فحين يكتب الفلسطيني عن ذاته فإن ذاكرة المكان غالباً ما تخونه، فهو يتوجس، أو يشعر بفقدان الثبات الذي يبقى جزءاً مدمجاً في وعيه، وخطابه، فهو في اللاوعي ينزلق إلى تأطير لغته في هذه المكامن، هي قيمة التشظي التي تسيطر على مجموعة «كأني هنا» في غير موقع، حيث نقرأ شيئاً من الفقد والتمزق:

أجمع نصفي

يداي تتزنان للرقص أو الصلب

عيناي تضخان الحزن كالحليب في فم مرآتي،

أشرد فيهما حُزمي

فلا تغمضان حتى الموت

لا أرض ترثنا ولا حباً؛

تتشكل الذات في حوار مع كيان غامض أو مبهم غير أنه يبدو مخاطباً، وحين يغيب هذا المخاطب أو الجزء الثاني المتمم.. تجرد الأنا من ذاتها ذاتاً أخرى، وربما تتشظى إلى أكثر من ذات في نسق يتكرر في غير موقع:

كان انسحابك؛ عاريا مني مقدراً

متجذرة؛ من النصفين، أدخل إليّ أولاً

فلا أجدني

إليك ثانياً

فلا أجدني

كنت طلقتك الأخيرة

يعكس هذا التجرد والتشظي ذلك الانقسام الذي يعدّ جزءاً من بعد قار في وعي الشاعرة التي تلتجئ إليه كي تبحث عن قيمة التوازن، فمع الغياب نبحث عما يقابلنا أو الموازي، وفي عدم القدرة على تحقيق ذلك ينبغي للذات أن تخلق ذاتاً أخرى كي تتمكن من النجاة، والمضي قدماً:

تدخل إليّ مؤمناً أن لا أحد غيري

هذه المرة

أشقني نصفين ملء إراداتي

ودون أرض تحتنا

نلاحظ تكرار نفي الأرض في غير موقع من الديوان، ونعني فعل الانقسام، ومن ثم نلاحظ كيف يمتزج في الموقع السابق الوعي الذاتي بالأنا الجمعية المحيطة، فلا جرم أن نرى انحسار كلمة الأرض، وتلاشيها، إذ لا يمكن الوثوق بعالم يبدو متداعياً، وهي صيغة ما فتئت تتكرر في مجمل المجموعة، حيث لا يمكن الاطمئنان لما يحيط بنا، سواء أكان على مستوى المشاعر أو المادة، كما الوجود، كل شيء يبدو متداعياً مفرطاً بحساسية ما.

تنطوي المجموعة على تلك الحوارية مع الآخر، والذات، بما في ذلك الرجل، وكيانات غير متعينة، هي ذوات متعددة كلها تمضي نحو شيء من القطيعة، وعدم الاكتمال. ثمة محاولات لإفراغ كل شيء، محاولة لتشتيت المعنى، وعدم وصوله بهدف خلق شيء من التضليل على مستوى تكوين الدلالة. هذا النسق يجسد فاعلية إيمان الذات الشاعرة باللغة، التي تنتظر منها أن تكون فضاء يحيط بها، حيث تقيم فوقه متاهات من المعاني التي من الصعب أن تنتهي إلى يقين. وكي تتبلور قيمة هذا الذات التي قد تثقل بعض الشيء على المتلقي، لا بد من اللغة أن تعبر عن ذلك التجرد:

أنهض من موتي

لأموت ثانية في الحلم

أو لأنتشل من بدني عشاء الدود،

أو لأملأ عيني بتراب الحفرة،

وأكتفي

لكني أضيع مني

ويضيع مني سبيلي،

هذه الذات كثيرة الإحالات، فتنحو إلى مجال من التأويل الذي لا ينتهي، تبدو مُثقلة بضبابية، ومغلفة إلى حدود الإزعاج، لكنها تبقى رهينة التّحفيز، والبحث عما يكمن في الداخل.

تشوّهات الأنا (غيوم المقاصد)

ثمة وعي واضح بمعنى أزمة بالآخر، فثمة إنكار مستمر، خيبات متتالية كما في قصيدة «قبل أن» التي تتخفف في جملتها الشعرية حتى تكاد تشبه الغيوم، ربما بغية التخفف من الحذر، فحين تواجه الذات لا تواجه الآخر إنما تواجه المرآة التي تكشف التشوهات.

أضاءت له فتيلة شعرها منارة

فأحرقها

أسعدته

بما استطعت، ولم تستطع

فأخمد ضحكتها بالنيران

ولما نظرت المرآة إليها

تألمت من تشوهها،

كلما تركن الذات إلى عطب نقرأ في مواجهته اشتباكاً مع الحياة، والحب، والفقد، والهجر، كما الخوف. ثمة في الخلفية الحكاية الأولى التي تذكرك بأنك فلسطيني، وبأن حكاية الموت باتت جزءاً من يومياتك، هكذا يبقى الإحساس مرتهناً بنشرات الأخبار، والشهداء لتدرك أن ثمة ألماً مستمراً لا يمكن أن ينجز مهما حاولنا تجاهله؛ لأن هذا يعني تعريف الذات. هكذا تلجأ الشاعرة إلى إحداث قطع في تسلسل السرد كما في قصيدة «الشبح الذي كان نزيلاً هنا» فبعد رحيل الشبح الذي كان نزيلاً هنا.. يبقى التلفزيون يبكي، أو ليقص حكاية ليملأ بها الفراغ.. غير أن الموت يبقى البطل الذي يستعاد:

تقول المذيعة: اعتقلوا الفتى

ثم انتحر

نثروا التراب

صلوا عليه

ودعوه

إن المتأمل في مجمل عناوين القصائد يلاحظ البتر الذي ما فتئ يتكرر، فالدورة لا تكتمل، والطريق غالباً ما تجنح أو تفشل في الوصول إلى الوجهة.. هكذا يبدو اللقاء مبتوراً.. كما في قصيدة «غير أن» وكما أيضاً في قصيدة «قبل أن» و«لم نبدأ» و«محاولات لقطع الوريد» و«وداع» و«الفراق» وغيرها.. التي تشي في معظمها بنسق متوتر لا يكمن في الأفكار، والرؤية فقط، إنما يطال مستوى تشكيل القصائد التي تخضع لمساحات تفرضها الأفكار، ومنها البحث عن تشكيل الغموض عبر حشد من الاستعارات، والصور التي تجنح إلى تكوين غير معتاد، أو مألوف، أقرب للتغريب، حيث تتقاطع المادة أو تمتزج بالمشاعر، كما الكيانات، والأحاسيس.. ثمة إصرار واضح على أن تبقى القصائد في أطوار من التمركز على الذات في مواجهة الآخر، لكن ضمن تكرار لحالات، ربما مواقف، خيالات، وذكريات، كما الأحلام، والأماني. وكي تتمكن القصائد من النهوض ثمة حاجة للتعويل على نسقية الصورة الشعرية، ومركزيتها في القصيدة:

ريثما تسلو

سأقطف للطريق خيالنا

لن أبقى هادئة، وأنت تدعك قلبك بالإسفلت ليبهت

وتعض أصابعك المغمسة برائحتي

أو تخيط عيني بسلك شائك

لتنزف بياضهما والضوء

هكذا يمكن أن نسلّم بأن فعل تعويض الإيقاع أو الوزن في قصيدة النثر قد يتحقق عبر منافذ تكريس حضور الصورة، غير أن تنضيد الجمل الشعرية، قد يبدو في بعض المواقع جزءاً من تشتيت الحالة أو فعل التلقي، وربما يبدو مقلقاً، لا يقترب من سقوط ضوء على جسم ليعكسه بمقدار ما يشتته، ويتبدى عبر الإكثار من الانزياح في اللغة، من خلال بناء علاقات غير مألوفة، كما في المقطع الآتي:

لتمرر حبلها وشاحاً لأم كي تخنقه، ذاك الحنين

فلا يكف المغتال عن المعجزات

ولا تكف المجللة بالعدم عن تخيله

فآويته يا الله إلى غيمتك

ولما يكون على وشك القتال،

على اتساع الجدران حوله

جعلت نهراً يتنفس دافعاً إياها إلى الخلف، خلفه

فتطفو

غير أن ثمة نماذج تبرز بتكوينها الغريب، والتي تتطلب وعياً بتأمل العلاقات التي تفتعلها اللغة، فبعض الصور تحتمل قدراً هائلاً من الدلالات، وسعة جمالية واضحة تقترب من تعذيب الذات، كما في النص الآتي:

هكذا أرقع اليأس بالعشب المجاني

العشب هش كالفراشات

ويأسي له أنياب

نلاحظ كيف تمارس اللغة في هذه الأجزاء محاولات لا مستقرة، ثمة كوى بينية واضحة بين المعاني، فاليأس بكل ما يحمله من سلبية قد يتحول لقوة، ولاسيما حين تتحدث القصيدة عن المجانين نتيجة اليأس من العالم بوصفه المعنى الأكثر حقيقية.

هكذا نستعيد نسق المجموعة ورؤيتها التي تنطلق من الذات، ولا تنتهي إليها. ولعل هذا يتصل بمركزية المقصد العام للمجموعة التي تنهض على إفراغ مدى اليقين بهذا الوجود؛ أي الأنا التي تقترب من تخوم إدراك وجودها في الـ»هنا» لكن إلى أين تحيل (هنا) هل يمكن أن تكون فضاء في وعي الآخر؟ هل يمكن أن تكون مكاناً، وهل تحتمل دلالة مغايرة، فكما نعلم أن اللغة تمارس أحيانا توليد الدلالة المضادة، فكأني هنا.. ربما تعني بأني لست هنا، ربما لزخم الشك الذي يتخلل الوجود.. وهكذا يمكن القول بأن مناخات المجموعة، كما مزاجها العام قد يعلق بهذا الارتهان الدلالي بكل ما يحمله من قيم تحتاج للكثير من التأويل.

كاتب أردني فلسطيني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي