نوستالجيا التوق في رواية «بين تلال الحنين»

2023-08-17

عايدي علي جمعة

رواية «بين تلال الحنين» للروائية العراقية المقيمة في بريطانيا بدور زكي محمد، الصادرة عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام في القاهرة، تنهض عتباتها النصية ببث دلالات واضحة في اتجاه الحنين إلى شخصيات وأماكن وأزمنة لها مكانة عزيزة في النفس، لكن سيف القدر أبعد هذه الأشياء. فالعنوان نفسه يصبُّ في هذا الاتجاه، فكلماته الظاهرة لا يوجد فيها فعلٌ واحد، مما يُكرِّس لثيمة الثبات وعدم القدرة على تجاوز هذا الحنين. كما أن كلمة «بين» تدل على إحاطة التلال وكثرتها الكاثرة، وإضافتها للحنين يفتح باب الذكريات على مصراعيه.

بعد هذا العنوان الذي يُمثِّل عتبة نصية؛ يطالعنا سطران في منتصف الصفحة، يُكرِّسان لثيمة الحنين شديدة الوضوح.. « (إلى من غاب من أهلي وأحبابي، رسائل حنين ليتها تصل).

ثم تُطالعنا عتبة نصية أخرى تنهض بالتقديم لهذه الرواية عنوانها «حنين» حيث تكشف المؤلفة عن إضاءات لهذه الرواية، من حيث الجمع بين الواقع والخيال، فالشخصيات واقعية فيها، لكنها ضخَّت من خيالها ما يجعلها شخصيات روائية مكتملة، وتشير الكاتبة إلى أنها كتبت هذا المفتتح في لندن عام 2019.

وحينما يدخل القارئ إلى عالم هذه الرواية يكتشف أن السارد الأول فيها هو «عابر سبيل» الذي وجد مذكرات لشخصية اسمها «سلمى» حين قابلها مصادفةً في محطة قطار، وهذه المذكرات تُدخِل هذا العابر في عالمها، فإذا به يُعايش صاحبتها، ليجد نفسه وقد وقع في حبها.

سيطالع القارئ لهذه الرواية ساردين مختلفين: الأول هو «عابر سبيل» الذي وجد المذكرات، والثاني هو «سلمى صاحبة» هذه المذكرات، واسم سلمى هنا موجود في سرد المذكرات نفسها. هذه المذكرات عبارة عن أوراق وأحداث متناثرة، تدخّل «عابر السبيل» فيها بنفسه حتى جعل منها رواية مكتملة، كما ذكر أنها لا تهتم كثيرا بالتأريخ للأحداث، لكنه يثبت أنه يعتقد أن أحداث هذه الرواية وقعت في النصف الثاني من القرن العشرين على أرض العراق، ومن ثم فإنها تستحضر حروبه المدوية في هذه الفترة.. يقول: (فقد بذلتُ سخيِّ الوقت في حلِّ رموز خَطِّها الجميل والمضطرب في الآن نفسه، وأعدتُ كتابة كل التفاصيل بكلماتٍ واضحة، كما سمحتُ لنفسي باختيار عناوين مناسبة انتزعتُها من النصِّ، فكأني شاركتُها في كل ما كتبتْ». وإذا كان السارد الأول هو عابر السبيل الذي وجد المذكرات وتدخَّل فيها حتى جعل منها رواية، فإنه في الكتلة السردية رقم 3 التي تحمل عنوان «أمي التي لا أعرفها» يعلن في البداية أنه سيغادر السرد لصاحبة المذكرات سلمى لأنها أدرى بأُمها. وهنا تعود بنا الساردة إلى ما قبل مولدها، وتقص علينا كيفية زواج أبيها من أمها، وفشل هذا الزواج، حتى إنها لم تكن تعرف أمها في البداية. لكن هذا السارد الأول بعد أن ترك سُلطة السرد لسلمى عبر كثير من الكتل السردية، يطل علينا مرات أخرى فيقدم لسرد سلمى، بل إن الأمر يصل في كتل سردية متأخرة في الرواية إلى استئثاره بالسرد عن نفسه حتى يُدخلنا في عالمه، كما دخلنا من قبل إلى عالم سلمى.

وعلى الرغم من هيمنة السارد بالضمير الأول وتنوعه، فمرةً للرجل/ عابر سبيل ومرةً أخرى للمرأة/ سلمى، فإن استحضار القارئ عبر المتن السردي نفسه يطالعنا مرات عديدة، فالسارد يسرد سرده وفي ذهنه قُراؤه، ما يكسر حاجز السرد نفسه ويُدخِل القُراء في مجاله، فلا يشعرون بأنهم خارج العملية السردية من أولها إلى أخرها.

يظهر الزمان في هذه الرواية بطريقة خاصة، فقد استغرق الزمن، منذ وجد عابر سبيل هذه المذكرات مصادفةً في محطة قطار حتى نهاية الرواية، عاما تقريبا، حيث تمَّ التعارف بين الشخصيتين المحوريتين «عابر سبيل» الذي سيكون اسمه «وضاح» بعد ذلك و«سلمى» الشخصية المحورية في المذكرات، والتي سيكون اسمها «دُنيا» بعد ذلك، ثم نما هذا التعارف ليصبح حُبّا ملتهبا بين الطرفين في النهاية.

وكان لقاؤهما في لندن موطن هجرتهما هربا من الضغوط الهائلة في العراق بلدهما الأصلي. وقد كشف التعدد المكاني في هذه الرواية عن حالة الشتات التي تعيشها شخصياتها، كما كشف التعدد الزماني أيضا عن حمل رهيب تنوء به الشخصية المحورية «سلمى» التي أخذت الكثير من الكتل السردية.

ومن هنا فإن هذه الرواية تتحرك على صعيدين: الصعيد الأول هو هذه الحكاية بين الشخصيتين المحوريتين، والصعيد الثاني هو ما يوجد في هذه المذكرات من سرد سلمى، وتدخل عابر سبيل ليجعل من هذا السرد المشعث رواية مكتملة. وكان من نتيجة ذلك وجود ساردين: عابر سبيل يمهِّد للساردة المحورية «سلمى» في المذكرات. ويلمس القارئ بوضوح شديد أثر العنوان اللافت على الكتل السردية في الرواية، فهناك تسع عشرة كتلة سردية تستغرق 252 صفحة، تظهر من خلالها شخصيات شديدة التنوع نسائية في الغالب ورجالية أحيانا، ترتبط الذات الساردة بذكريات نابضة معها، وهناك أماكن متنوعة لكن معظمها في العراق البلد الأصلي للذات الساردة، وهناك أزمان متنوعة معظمها في العراق أيضا، وكأن القارئ يعيش وسط غابات سردية تُكرِّس لثيمة الحنين، أو على حدِّ تعبير الرواية: تِلال الحنين.

ومن هنا تبدو أهمية القصة الإطار في التكريس الكبير لثيمة الحنين، ففي القصة الإطار نجد الذات الساردة تعيش في لندن بعيدة تماما عن الوطن/ العراق، وتكتب عن ذكريات مَرَّ عليها زمن بعيد قد يصل إلى نصف قرن، وتنفض نفسها على الورق وتُقلِّب ذكرياتها عليه. ولذا لا يستطيع القارئ أن يفلت من مرسلات الحنين التي تبثها الذات الساردة، وهي في بثها لهذا الحنين تلمس ببراعة الفنان مدى الحب للوطن الذي يتسرب إلى كل ذرة من كيانها، وفي الوقت نفسه تجسِّد مدى الغصة التي لاقتها ولاقتها معها شخصياتها المتنوعة ممن حكموا هذا الوطن.

وتكتسب نهاية الرواية دلالة خاصة في هذا السياق، فالشخصية المحورية (سلمى) في المذكرات (دنيا) في الرواية الإطار تقع في حُب عابر سبيل في المذكرات/ وضاح في الرواية الإطار، لكن في غمرة حبهما اللاهب تظهر فجأة شخصية من الماضي، كان زميلها في الجامعة في العراق، وحدثت بينهما قصة حب مشتعلة، لكنه تعرَّض لحادث مؤلم كان من نتيجته زواجه من قريبة له وغيابه تماما عن مسرح الأحداث حتى قالت لها زميلة من زميلاتها إنه مات، وفجأة يظهر في لندن وهو في حالة شديدة التعاسة والمرض والوحدة فيخبرها باحتياجه الشديد إليها، ورغبته في الزواج بها، فتنشطر بين الماضي والحاضر، وكأن تلال الحنين لا تتركها وهي في زهوة عشقها.

وتكشف الرواية بوضوح شديد عن سياق اجتماعي تهيمن عليه سمة التفسُّخ والقهر، وكأن الرواية تنكأ الجرح في منطقتنا حتى نجد له علاجا، فالعلاقات الاجتماعية في الأغلب الأعم متفسخة وكل شخصية من شخصيات الماضي التي لمستها الذات الساردة لا تخلو حياتها من مأساة، وهذه المأساة تتعاون عوامل كثيرة في صنعها بلا رحمة، حتى كانت الهجرة سمة مهيمنة في حياة الكثير من الشخصيات.

وهذه العوامل الصانعة لمأساة الشخصيات مرةً النظام السياسي، ومرةً التقاليد المُهيمنة، ومرةً رؤية العالم التي تجعل المرأة في منزلة أقل من الرجل؛ ما يجعلها تلاقي الأمرَّين، ومرةً نظام الزواج الفاشل كما توضِّحه الرواية، فأُمُّ الذات الساردة مثلاً اسمها «فرحة» ـ ما يستدعي جانب الفرح في الحياة ـ طلَّقها زوجها والد الذات الساردة ـ رغم جمالها وطاعتها وإنجابها لابن وابنة ـ وهي غائبة تمرِّض والدتها المريضة، وحينما عادت إلى بيت الزوجية طردها وحرمها من ابنها وابنتها، ما جعل حياتها سلسلة متصلة من الحُزن والمأساة.

وهناك سياق آخر تلمسه الرواية بوضوح شديد وهو سياق العلاقة بين الشرق والغرب، وكثيرا ما تُطل في البنية العميقة في الرواية مقارنات تكشف عن قهر المرأة في الشرق وحُريتها الكبيرة في الغرب. وتلمس الرواية طبيعة البيئة العراقية من بيوت لها حدائق وما فيها من نخل وريحان وغير ذلك. تقول سلمى: (اليوم وأنا أطوي العشرة تلو العشرة من عمري يزيد إحساسي بالماضي، ويأخذني الحنين إلى بيت أمي، وأتخيل ضفائرها التي خطَّها الشيب، صورتها وهي تحتضن أحد إخوتي وكان عائدا من جبهات القتال). ونجد فيها اندماج الحُب بالحرب، ويعيش الماضي في الوقت نفسه مع الحاضر، ما يجعل الحنين تِلالاً لا سبيل إلى تجاوزها.

كاتب مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي