حكواتي الليل: هل انتهت الحكايا في دمشق؟

2023-08-16

محمد تركي الربيعو

يحكي لنا الروائي رفيق شامي في إحدى مقابلاته النادرة، تفاصيل عن سيرة روايته الشهيرة (حكواتي الليل) التي نشرها عام 1989، وترجمت للعربية عام 2011. ومما يذكره في هذا السياق، أنّ هذه الرواية ليست أولى أعماله، بل سبقتها أعمال أخرى لم تحظ بالاهتمام الكافي، بينما بيعت من «حكواتي الليل» 250 ألف نسخة!

تدور الروايةُ في دمشق حول سليم العربجي. كما يبدو من اسمه، فقد عمل في مهنة نقل الناس والبضائع. وعلى الرغم من أنّ العربجيين لم يكونوا محبوبين في الشارع، كما ينقلُ لنا جمال الدين القاسمي في كتابه «قاموس الصناعات الشامية» عندما يتحدث عن مهنة العربجي، فيقول: «قلما يوجد من أصحاب هذه الحرفة من له تقوى وعفة وخوف من الله تعالى» مع ذلك فإنّ ما ميزَّ البطل سليم، قدرتُه على سرد الحكايا، ما جعله محل إشاعات بين الجيران تدور حول علاقته ببعض الجنيات اللواتي كنّ يعلمنه هذه القصص. لم تحبط هذه الإشاعات سليمَ عن روايةِ قصصٍ جديدةٍ، لكنه سيستيقظ أحد الأيام ليجد نفسه غير قادرٍ على الكلامِ. كانت البلاد تعيشُ مرحلةً جديدةً تمثّلت في الوحدة مع مصر عام 1958. وبذلك حاولَ رفيق شامي القولَ بأنّ هذا التحول السياسي المتمثِّل ببروزِ عالم المكتب الثاني (المخابرات وعبد الحميد السراج المقرب من عبد الناصر) قد انعكس على الحياة في دمشق، من خلال خوف الأهالي من التعبير عن آرائهم السياسيةِ.

ولذلك جاء صمت سليم هنا كرمز على الخوفِ هذا. لكن جنية أخبرت سليم باستعادته القدرة على الكلامِ إن تمكّن أصدقاؤه السبعة من روايةِ حكايا مدهشة وذات معنى. ولذلك سيقرّرُ أصدقاؤه السبعة كل يومٍ رواية حكايةٍ لصديقهم علهم يتمكنون من إعادةِ لسانه.

تبدو الحكايا بمثابةِ العالم المنقذ للحكواتي الصامتِ، ليس لأنّها ستزوّده ربما بقصصٍ جديدةٍ، بل لأنّ في الحكايا التي سيسمعها من أصدقائه، وهي في الغالب حكايا محبوكة على منوال قصص ألف ليلة وليلة، ما يوفّرُ له القدرة على الخيال مرة أخرى، وبالتالي عودته للكلامِ. لن يفلحَ الأصدقاءُ في مسعاهم، رغم براعةِ ما سردوه من حكايا عن الجنيات والعفاريت وأشخاصٍ يمتلكون فمّين وأذن صغيرة، وعن كذاب الملك الذي عثرَ على ملائكة يقفون على أبواب قلعته يندبون حظهم لعدم وجود من هو حزين في المدينة، فما كان من الملكِ إلا أن صاحَ «كذب» معلناً هزيمته أمام كذاب قصره. مع ذلك، سننتظر حتى اليوم السابعِ حين يأتي دورُ الحدّادِ، وهنا سيقرِّرُ فسحَ المجال لزوجته لتروي حكايةً بدلاً عنه. هنا ستروي لنا قصةَ فتاة تدعى ليلى، والتي كانت تعيش في قرية صغيرةٍ. وفي أحد السنوات كان الجفاف والقحط قاسياً، فأخذ الفلاحون يصلوّن ويصلون، بينما قرّرت ليلى تسلّقَ قمة جبل وهناك لمحت غيمةً صغيرةً. روت ليلى قصةً للغيمةِ، وشيئاً فشيئاً اقتربت غيمات أخرى ليستمعن للقصص. وهكذا لبثن في مكانهن ونزل المطرُ على المدينةِ. ومع هذه القصص، وقصص أخرى عن ليلى، طار سليم من كرسيه وقبّل زوجةَ الحداد على جبينها معلناً عودته للكلامِ. وبالتالي نرى أنّ قصة زوجة الحدادِ (شهرزاد دمشق) هي التي ساعدت على خروجِ سليم من صمته (بعد الوحدة مع مصر) معلنةً عن قدرة الحكاية على هزيمةِ السياسي أحياناً، حتى ولو رمزياً.

حكواتي عتيق

اللافت في رواية شامي، اللغة التي استخدمها في كتابة روايته. فلمجرد العبورِ من بوابتها الأولى، يخيّلُ لنا أننا أمام نصٍّ من نصوص ألف ليلة وليلة. ولعل في حديثه عن أصدقاء سليم السبعة وزوجة الحداد، ما يذكرنا بقصص شبيهة في تراث الليالي العربية، اذ تروي إحدى القصص حكاية الوزراء السبعة والجارية (سندنامه) التي يقرِّرُ فيها ابن الحاكم (الوريث) عدم الحديث لسبعةِ أيامٍ مهما تعرض لمصاعب وفتن، ليكتسبَ ميزةَ الصبرِ، والتي تُعدُّ إحدى مزايا الحاكم الجيد. ولذلك ستقرر إحد الجواري جرّ الشابِ للحديث، وعندما تفشل تبدأ سلسلة من الحكايا بين الجارية والوزراء السبعة، بينما الشاب ينصتُ لهم (وهي ميزة أخرى من مزايا الحاكم).

ورغم أنّ شامي لا يبدو أنه قد اقتبس حكايته من هذه القصة، لكنه لا ينفي بالمقابل تأثّره بألف ليلة وليلة. فالشامي لم يتردّد هنا من توظيف التراثِ التقليدي الحكائي في روايته. وربما هناك من فسّر ذلك من باب محاولته خلق عالم استشراقي مشتهى لدى القارئ الغربي، لكن من يقرأ روايات الشامي، يدركُ أنه لا هواية له سوى دمشق وقصصها. والطريف، أنّ هذا الهوس انعكس على نصوصه، ولذلك دائما ما نشتمُّ رائحة المدينة وأسواقها وذاكرتها في كل مكان من روايته. والجميل أيضا أنّه لا يتعاملُ مع المدينةِ بوصفها مكاناً لتجمّعِ الأسواق والمعاملات العقلانية، بل دمشق هي مكان لقصصِ اللامعقول والعفاريت والمجانين. وهي مكان في كل زواية منها إشاعات وقصة، حتى لكل طبخةٍ فيها قصة. فمثلا تروي لنا إحدى النساء الدمشقيات أنّ الكوسا محشي (وهي أكله شهيرة تقوم على حفر قلب الكوسا وحشوه بالأرز واللحم) قد اختُرِعت إثر حادثةِ عشق في المدينة. ففي الزمن الماضي، يُروى أنّ فتاة من دمشق أحبّت شاباً في المنزلِ المجاورِ لمنزل أهلها. وبعد أن عجزت عن إيصال رسائلها له بكل السبلِ، قرّرت حفرَ الكوسا ووضع رسالةٍ داخلها ورميها في ساقية المياه المشتركة التي كانت تصل لكل بيوت الجيران. وهكذا تضمن وصولها لحبيبها. مع مرور الأيامِ، اكتشفت هذه الفتاةُ إمكانيةَ تجريب وضع أشياء أخرى في داخلها مثل اللحوم والأرز، فكان اكتشاف طبخة الكوسا محشي والشيخ محشي. وبغضِّ النظر عن مدى صدقِ هذه القصة، لكن وجودها يعكسُ حالةَ مجتمعٍ غني وقادر على القصّ والخيال، ومفعم بالقيم. ولعل هذا ما جعل من مدينة دمشق مدينة قادرة على التجدِّد دائماً، وإن بدت من الخارج محافظة وتقليدية.

بالعودة للشامي، يحسب له أيضا كشفه عن وجودِ مدينةٍ مليئةٍ بقصصِ العشق والصوفية والكرامات والعفاريت والأبطالِ العاديين، وهي قصصُ تلعب دوراً على صعيد شحن مزاج ومخيالِ أهالي المدينة بتصوراتٍ وأفكارٍ جديدة لا تتوقف.

الحكايا والحرب

في إحدى قصص رفيق شامي، يحدِّثنا عن قصة ملكٍ كان يرفض الاستماع لأي نصيحةٍ تُذكر. ولعلّ الشيء ذاته ينطبقُ على أحوال 2011، فالجنرال الأسد، رفض أيضاً الانصاتَ لأي نصيحةٍ تُقالُ. فكان الخراب، وقطع رأس كل من يعارضه. لكن بعض أبناء المدينة لن يصمتوا، وإنّما قرروا الردّ على ما يجري من خلال الحكايا أيضا.

وربما من أبرز هذه المحاولات الحكائية، مشروع الروائي الراحل خيري الذهبي، الذي بغيابه تعرّضت دمشق لخسارة كبيرة على صعيد صناعة عالمها الحكائي. وكما فعل رفيق الشامي مع سليم العربجي، كان أيضا الذهبي قد قرّرَ إكمال مشروعه في الدفاع عن المدينة، وهذه المرة من خلال ابن أحد شيوخ الدين الذي قرّر مواجهةَ الجنرالِ والدفاع عن مكتبة والده (تراث المدينة). سيكتشفُ هذا الشاب في إحدى المرات دهليزا يصلُ إلى أسفلِ المكتبة ليعثرَ هناك على بقايا هياكلَ عظيمة تعود لفرسان مماليك، في إشارة لذاكرة المدينة، وكون المماليك كانوا أبطالاً صوفيين. ولعلّ الذهبي حاول من خلال أسلوبه أيضاً في الحكايا وقصصِ العفاريت والمجانين، والذي اعتمد على معرفةٍ غنيةٍ بتراثِ المدينة وتوظيف هذه المعرفة في رواياته، القولَ إنّ مواجهة ما يجري في سوريا لا يكون إلا من خلال استدعاء الذاكرة والماضي. ومن خلال محاولة، ما يسميه أريك هوبزباوم باختراعِ التراث، أو بالأصحِّ استدعاء التراث، وفي هذا الاستدعاء تُجلبُ عشرات القصصِ الرمزية واللامعقولة وطاقتها اللامتناهية، وأيضا تلك التي جرت، ليُعاد إنتاجها مرة أخرى لخدمة الواقعِ.

وهكذا تمتلك المدينة تراثاً قادراً على حمايتها، رمزياً، أو لنقل تراثاً قادراً على توليدِ عشرات القصص الجديدة التي قد توفِّر عبرة أو فرصاً للأملِ وتخيّلِ مشهد آخر في المستقبلِ، رغم قتامة الواقع. اللافتُ أنّ هذا الأسلوب شبيه بأسلوب مفكرين سوريين في بدايات القرن العشرين، واذكر هنا مثلاً محمد كرد على، الذي عكف على كتابهِ خطط دمشق، محاولاً أيضا جمع قصص عن المدينة وأهلها، كتراث يضمن لهم مواجهة أزماتهم في المستقبلِ. لكن يبدو أنّ الروائي سيتكفّلُ بالقيام بهذه المهمة بعد مئة سنة. وبكل الأحوال، يمكن القول إنّه مع الشامي والذهبي، استطاع الروائي الدمشقي، من خلال توظيف تراث المدينة اللامعقول في نصوصه، استعادةَ الحقّ في الخيالِ، وبالتالي، جعلنا ننتصرُ نهايةَ المطافِ، كما هي نهايةُ كل قصصِ ألف ليلة وليلة.

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي