ولا يزال «دافنشي» غامضا حتى الآن!

2023-08-15

عاطف محمد عبد المجيد

ثمة شخصيات فريدة من نوعها في تاريخ البشرية، لا ينتهي ذكرها بعد رحيلها، بل تظل وإلى الأبد، مثار جدل وتساؤل، كما تظل بئرا لأسرار عديدة تتكشف حينا بعد حين، وربما زاد وجودها في الحياة بقدر أكثر مما كانت عليه وهي على قيد الحياة، ومن هذه الشخصيات الفنان العالمي ليوناردو دافنشي.

في مقدمته لكتاب «دافنشي» الذي ألّفه سيجموند فرويد، وأنجزت ترجمته، يقول الحسين خضيري، إن فرويد كان أحد رواد علم التحليل النفسي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وغيّر العديد من الأفكار والمعتقدات الطبية التي كانت سائدة آنذاك. كان فرويد، كما يقول المترجم، معنيّا بالإنسان في مجمل أبحاثه وأعماله، فرويد الذي أُعجب بمقال لجوتة عن الطبيعة فقرر دراسة الطب. ومن بين ما توصل إليه فرويد في مجال التحليل النفسي، أن الكبت صراع بين رغبتين متضادتين، وهناك نوعان من الصراع، أحدهما في دائرة الشعور، فيما يحدث الآخر ما إن يبدأ الصراع. ومن المؤلفات التي تركها فرويد، يذكر المترجم، «تفسير الأحلام» «قلق الحضارة» «مستقبل الوهم» و«موسى والتوحيد». فيما يقول عالم النفس البريطاني الشهير أوليفر جيمس: لقد غيّر كتاب فرويد عن دافنشي فن كتابة السيرة الذاتية، فمنذ ذلك الحين لم تعد السيرة الذاتية لأحد مكتملة، دون أن ننقب في منابع طفولته. في الكتاب يدخل فرويد إلى أعماق شخصية دافنشي، بداية من طفولته وحتى كونه فنانّا، ويصفه بالخمول واللامبالاة، كل ذلك إضافة إلى أنه مثال للفتور الجنسي غير المعهود لدى فنان اعتاد على رسم النساء، والأبعد من ذلك أن دافنشي لم يعانق امرأة ولم يمارس الحب، بل لم تكن له علاقة روحية مع أي امرأة.

نقطة جوهرية

أما النقطة الجوهرية في شخصية دافنشي، كما يراها فرويد، فتكمن في استخدام النشاط الطفولي الفضولي في خدمة الاهتمام الجنسي، القادر على إنتاج الجزء الأعظم في شهوته الجنسية بوصفها حافز الاكتشاف. يكتشف فرويد هذا في شخصية دافنشي وهو يحاول سبر أغوار التطور النفسي لسنوات طفولته الأولى. كذلك يؤكد فرويد أن موضوع الحب ذو دور كبير في حياة الفرد النفسية، وأول ما يكون الحب لدى الأطفال حب الأم. أيضا يذكر خضيري أن هذا الكتاب مليء بالأسرار النفسية والألغاز، التي يقترب منها العالِم النفسي فرويد، يوضح لنا فيها جوانب العظمة، والدروب النفسية التي سلكتها عوامل ساعدت على وجودها، وساعدت أيضا على ظهور نواقص في شخصية فناننا ليوناردو دافنشي.

يضم الكتاب ستة فصول إلى جانب مقدمة المترجم وثلاث سير ذاتية لكل من المؤلف سيجموند فرويد، مترجم الكتاب من الألمانية إلى الإنكليزية أ. أ. بريل، ومترجم الكتاب إلى العربية الحسين خضيري.

في الفصل الأول يذكر فرويد أن دافنشي كان مثيرا للإعجاب حتى لمعاصريه من العظام من رجال النهضة الإيطالية، وكان وما زال حتى ذلك الحين غامضا بالنسبة لهم، كما يبدو غامضا بالنسبة لنا. إنه عبقري بكل الجوانب، ذو هيئة يمكن التنبؤ بها، لكن من المحال سبر أغوار عمقها. ويكمل فرويد فيقول إنه كان فائق الأسلوب، مفوَّها، بشوشا، وحنونا على الجميع. لقد عشق الجمال في كل ما أحاط به، وكان مولعا بارتداء الثياب الرائعة، ومقدّرا لكل وجه صاف. ويُرجع فرويد تحول اهتمامات دافنشي من الفن إلى العلم إلى اتساع الفجوة بينه وبين معاصريه. لقد رأى معاصروه أن كل جهوده التي أضاع وقته فيها كما لو كانت عزفا متقلب الأطوار، وكان عليه أن يملأها بالجد وطلب الثراء.

قدماء المصريين

أما في الفصل الثاني فيذكر فرويد أن دافنشي لم يذكر لنا شيئا عن طفولته، سوى ما ذكره عن النسر الذي طار. ويصف فرويد النسر برأسه المتجه نحو ملابس المرأة/ الأم، بينما يتجه ذيله صوب الطفل، وأحد جناحيه عند قدم المرأة. ثم يتساءل من أين نشأ هذا النسر وكيف جاء إلى هذا المكان، ويجيب بأن النسر كان يرمز إلى الأم في المقدسات الهيروغليفية عند قدماء المصريين، الذين عبدوا الآلهة الإناث اللواتي كانت رؤوسهن تشبه النسر، أو كانت لهن رؤوس عديدة، إحداها على الأقل رأس نسر، ويضيف أن الديانة والثقافة المصريتين موضوعان علميان مهمان حتى بالنسبة للإغريق والرومان. أيضا يرى فرويد أن استبدال الأم بالنسر يوضح لنا افتقاد الطفل للأب وشعوره بالوحدة مع والدته، وبهذا تتناسب حقيقة كون دافنشي طفلا غير شرعي مع فانتازيا النسر، على اعتبار أنه كان قادرا فحسب على مقارنة نفسه بطفل النسر. كذلك يذكر فرويد في فصل آخر أن الفنان مُنح طبيعة لطيفة ومقْدرة على التعبير في نتاجه الفني، ومعظم مشاعره النفسية السرية مخبأة حتى عن نفسه. وعن ابتسامة لوحة الموناليزا لدافنشي يقول فرويد إنها، ويقصد الابتسامة، في حاجة لتفسير، وقد استقبلت العديد من التفسيرات المختلفة، لكن واحدا منها لم يكن مُرْضيا.

ويورد قول موزر عنها: إن ما يخلب لب المشاهِد هو هذه الديناميكية الفاتنة لهذه الابتسامة. لقد كتب مئات الشعراء والكتاب عن هذه المرأة التي يبدو أنها تبتسم لنا في إغواء وتحدق في الفراغ ببرود وبنظرة خالية من الحياة، لكن أحدا لم يحل لغز ابتسامتها، لم يفسر أحد أفكارها. وفي موضع آخر، وبعد أن يتحدث فرويد عن طفولة دافنشي وعلاقته بوالده، يقول إنه من المؤكد من فن ليوناردو أنه نحّى جانبا آخر آثار الارتباط الديني عن الشخصيات المقدسة، ووضعهم في إطار إنساني ليصور فيهم المشاعر الإنسانية العظيمة والجميلة. وقد امتدح موزر دافنشي لأنه تغلب على مشاعر الانحطاط وعدم رسمه لشخصيات فاسدة، بل شخصيات نقية وجميلة.

تجربة فريدة

في الفصل الأخير من الكتاب يقول فرويد إن علم تحليل الأمراض لا يهدف لفهم إنجازات الرجل العظيم، يجب أن لا نلوم أحدا لعدم فعل شيئا لم يَعِد به، ويضيف أن عظمة دافنشي لا يمسها سوى أن ندرس التضحيات التي استلزمها تطوره كطفل، إلى العوامل المُجْتمعة التي طبعت شخصيته بالملمح المأساوي الفاشل.

لقد كان ليوناردو دافنشي ذا مقدرة على العيش متقشفا وأعطى انطباعا أنه شخص غير شهواني. إلى جانب ذلك يبدو دافنشي لنا فنانّا ورساما ونحاتا منذ مرحلة غامضة من صباه، مسؤولا عن موهبة خاصة قويت باليقظة المبكرة للحافز على البحث في سنوات الطفولة الأولى.

وينهي سيجموند فرويد كتابه الشيق هذا الذي دار في عوالم الفنان ليوناردو دافنشي الشخصية، النفسية، والفنية، بعبارة تقول: كل فرد في الكائنات الإنسانية تجربة فريدة تعبّر أسباب الطبيعة فيها عن نفسها، وتقحمها في التجربة.

كاتب مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي