صيف ملتهب

2023-08-10

سهيل كيوان

5

كان ذلكَ الصّيفُ الملتهبُ غريباً، فقد توافد عشراتُ الكلابِ إلى بلدةِ (كَرْمَة) من كلِّ الجِّهات والطُّرق الموصلةِ إليها، خصوصاً من جهة الشّارعِ الذي يشطُر أراضي البلدة شَمالاً وجنوباً، والذي مرَّ بمراحل عديدةٍ من التَوْسِعةِ، منذُ كانَ طريقاً للمشاةِ من البَشَرِ والأنعام بينَ عكا وصفد، إلى أن أصبحَ نهراً عريضاً ذا مساراتٍ عِدّةٍ في كل اتّجاه، لا يخلو من المركبات لحظةً واحدةً.

لا تمرُّ بضعُ ساعاتٍ حتى يدخل البلدةَ كلابٌ غريبةٌ، تتشمَّمُ ترابَ الطُّرُقِ التي تدخُلُها لأولِّ مرَّةٍ، تستريح قليلاً، ثم تستأنف رحلتها إلى المجهول.

إنّها من أصنافٍ وألوانٍ وأحجام شتَّى، بعضها بحجم الذِّئب أو أكبر، وأخرى بحجم القِطَطِ والأرانب، بعضُها يتزيّنُ بخرزةٍ أو شريطٍ يطوِّقُ عنُقَه، أو حلَقَةٍ في أذُنِهِ، وبعضها عاطلٌ من الزِّينة، ويمكنُ تمييزها بسهولةٍ عن كلابِ البلدةِ المتشابهةِ، ابنةِ المكان، ذاتِ الملامحِ الخشنةِ والمُهملَةِ.

*

تسَلُّل

قالتْ رندا بسِحنةٍ مَنْ فطِنَ لأمرٍ مهمٍ كان قد نَسِيَهُ «قبِلْ يومين شُفتْ كلبة تسلّلت إلى المَخزن، ولكنّها لم تخرج، يِمكن بَعِدها جُوّا».

-كلبة؟!

أضأتُ مصباحَ هاتفي، انحنيتُ وولجتُ في فراغٍ طوليٍ ضيِّقٍ مظلمٍ لا بابَ له، نستغلُّه كمخزنٍ لأدوات العمل.

لمعت عيناها، واحدةٌ فوسفورية وأخرى عسليّة، كانت مُقعيةً في الزَّاوية، كأنّما تنتظر هذه اللحظة وتتوقّعها.

ابتعدتُ، ثم عدتُ وبيدي جرّادةُ ماء، انحنيتُ ودخلتُ بحذرٍ، حتى تمكّنتُ من وخزها بعصا الجرَّادة لحثِّها على الخروج، ولكنَّها لم تتحرَّك من مكانِها، وبقِيَتْ محافظةً على رباطةِ جأشٍ، وحينئذ انتبهتُ إلى أصواتٍ ضعيفةٍ تصدرُ من الداخل، فأصغيتُ لها جيّدًا.

رغم استيائي وحيرَتي للوهلةِ الأولى، ما لبثتُ أن شعرتُ بشيءٍ من الرِّضا، وذلك أنَّها وجدَتْ في بيتي ملاذًا آمنًا تضعُ جراءَها فيه.

«ما دمتِ قد استجرتِ بي، فلَكِ عليَّ حقُّ الطّنابةِ»، وحقُّ الطّنابةِ عندَ العَربِ هو حقُّ الملهوفِ بإغاثته وحمايته إذا ما دخل نطاق بيتٍ ما طالبًا النجدةَ، يُمسِكُ الدَّخيل في حبل الخَيمة الأساسي وهو الطّنيب، ويصيح بأعلى صوتِه «أنا طنيبٌ عليكم» أو أنا طنيب عليك يا شيخ فلان»، وتقضي المروءةُ في حمايتِه، كائنًا من كان- تُحسب المسافة التي يعتبر فيها الدخيل طنيباً حتى قبل وصوله البيت أو الخيمة، وتقاس مسافة الطنابة بأن يلوح الشّيخ أو أحد سكان البيت بعكّازه ويرميها بأقصى قوته، وحيث تصل يكون هذا نصف قطر دائرة المساحة التي يُمنع فيها المسُّ بالطّنيب.

نظرَتْ إلى جرائِها، ثم رفعتْ رأسَها، كأنَّها تعتذرُ وتقول «لَمْ تكنْ أمامي خياراتٌ أخرى».

وخزتُها لتبتعدَ قليلاً كَيْ أرى الجِراء، فألمَحَت لي بحركةٍ سريعةٍ من يدِها وأذنيها وبشخيرٍ غريب فيه تهديدٌ «لا ترْغِمْني على المواجهة، سأدافعُ عن جرائي».

ذكَّرتْني بجاد الله، أستاذِ اللغةِ والأدبِ العربي في الثانوية، وبأدائه المميّز في درسٍ عن الفقَمةِ التي استماتت لحمايةِ صغيرِها في مواجهة شراك وحِرابِ الصَّيادين، حتى اصطبَغت المياهُ بالأحمر، وفجيعتها وعويلها وهي تفْتقدُه.

رحِم اللهُ الأستاذ جاد الله (أبو نصري)، كان مبدعًا في مهنته، ولكنْ مؤلمٌ ومخيِّبٌ ما جرى من بعدِه.

في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ، يغادِر الآباءُ هذه الفانيةَ في الوقت المناسب، كَيْ لا يرَوا ما تفعلُه أيدي أبنائهم، ابنه نصري الذي كان يتباهى به ويراه محاميًا قد الدّنيا، صار نَصّابًا «قد الدنيا»، حتى بات مهدَّدًا بالقتلِ، فأطلقوا النارَ على بيتِه، وقتلوا كلبَه.

غبت لحظات وعدت إليها بقطعة دجاج في طبق بلاستيكي.

أتت بحركةٍ ضعيفةٍ كأنّها تهمُّ بالقيام دون أن تترُك مكانها: ابتعدْ، فأنا لستُ مطمئنة بعد!

أذعنتُ وابتعدتُ بضعَ خُطُواتٍ، فخرَجَتْ متثاقلةً من بين العتاد والخِردةِ بحذرٍ، ثم التفتَتْ حولها، وغبَّت في الطَّبقِ.

سرّني نهَمُها، وصوتُ طحْنِ العظامِ بين فكّيها.

نظَّفَتْ الطَّبقَ بلسانِها الطويلِ، ثم اشرأبَّت، ونفضَت فروتها الرّمادية، ثم رنَت إليّ.

لا بدَّ أنَّك عطِشَة! أحضرتُ لها ماءً في علبةٍ بلاستيكية.

صوتُ ولوغِها في الماء منحَني شعورًا باللّذة، خصوصاً وهي تَرمُقُني ممتنَّةً بين بُرهةٍ وأخرى في تناسب دقيق، بين لسانِها الذي يلغُّ في الماء ونظرتِها إليّ، هذه اللذة المدغدغة التي نشعرُ بها عندما نرى نتيجة طيِّبةً فوريَّة لعملٍ قمنا به.

دنَوْت منها، وبحذرٍ مسَّدتُ ظهرَها براحةِ يدي، رنَتْ بهدوءٍ وتثاءبت واستَرخَت، كما لو كانت تنتظر هذا، والتقت أعيننا من جديد».

حركةُ جسدِها وامتثالها تقول، أريدُ المزيدَ مِن هذا.

مرَّرتُ راحتي على رأسِها وظهرِها، وعلى جانبيها وحولَ عينيها، بحركاتٍ بدأت عشوائية، ثم صارت تنتظمُ بسلاسةٍ ونعومةٍ، أتركُها ثم أعيدُ الكرّة وأحسِّسُ عليها، فتتمطَّى مستمتعةً، هذا منحني شعوراً بانسجام ما، ما لبث أن تحوَّلَ إلى هدوءٍ داخليٍ، وشعرتُ بالتَّوتُّر الغامضِ الذي يسكنُني من غير سببٍ محدّدٍ وقد صار يتلاشى، كأنّها امتصَّت شحنَةً سالبةً ثقيلةً كانت مخبوءة في جسدي، دون أنْ أنتَبهَ إليها، غمَرَتْني حالةٌ من الاسترخاء والسَّكينة، لا أريدُ فيها الكلام ولا سماع شيء، كأنني مستلقٍ فوقَ كومَةٍ من القشِّ في بيدر بعيدٍ منعزلٍ، أتأمّلُ بدرًا فضِّيًا في ليلةِ صَيفٍ قروية قديمةٍ هادئة.

سَحبتُ شهيقًا عميقًا، وانتابتني حالةٌ من الصَّفاء الذّهني، كلّما أمعنتُ في التّمسيد عليها، وهي مستسلمةٌ ومستمتعةٌ، تومئ برأسِها وأذنيها» كمان كمان.. على راسي.. آه على وجهي.. وعلى جنبي الآخر.. جلدي يرعاني.. شكرًا كثيرًا.

نعيماً

أوثقتُ الحزام في عُنُقِها: تعالي، لازم تستحمي.

-هاا؟

-تعالي لا تَخافي.

اقتربَتْ ووقفتْ مستعدةً.

رششتُها بالماء بواسطةِ أنبوبٍ مطاطي، فصدر عنها صوتٌ ضعيفٌ يعبِّرُ عن انزعاجها، وابتعدَتْ قليلاً «الماءُ باردٌ».

-تعالي، تعالي، شدَدْتُ الحزامَ حول عنقها، وربطته في صنبور المياه.

أذعَنتْ مُضطرةً، فغسلتُها بالماء والصّابون، ثم أحضرتُ ملقطًا وعلى مهلٍ، نقَّيتُ جلدَها وأذُنَيْها من القَراد، ورأيتُ التماعات الرضا في عينيها.

-نعيماً.

بعد الحمَّام ارتقت العلاقةُ، ازداد اللّمس والقُربُ والدفءُ، كأنّنا صديقان منذ سنواتٍ، وليس منذ أيامٍ فقط.

بدأتُ أكتشفُ فيها جمالاً لم أنتبه له من قبل في أيِّ كلبٍ: أسنانَها الناصعةَ المنتظمةَ الحادَّة، عينيها ذات اللونين، ولمعان العرفان والشُّكر فيهما، شكل الجمجمة الأسطواني المستطيل، وعفويتها وبراءتها.

صارت وصغارها تشغل معظم وقت فراغي، ومعي الصغيران هيثم وتالا، لا يفارقان ضيفتنا احتفاءً مستمرًا بها وبهم.

-من روايتي الجديدة «ملجأ الكلبِ السعيد» التي ستصدرُ قريباً عن مكتبة كل شيء في حيفا.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي