بقعة ضوء على شهرزاد السلاجقة

2023-08-07

صبحي حديدي

في أي موسوعة، مبسطة أو متخصصة، سوف تكون عشرات الأسماء أمام الباحث عن تأثيرات «ألف ليلة ولية» في الآداب العالمية: نجيب محفوظ، الطيب صالح، أحمد إبراهيم الفقيه، عبد الكبير الخطيبي، الياس خوري، ليلى صبار، واسيني الأعرج، على سبيل الأمثلة العربية؛ ثمّ أمثال غوته، بوشكين، تولستوي، دوماس، هيغو، ستندال، فلوبير، دو نارفال، بروست، جيد، بوتور، هوفمانشتال، بيريك، ثاكري، فيلدنغ، والتر سكوت، ولكي كولنز، ييتس، إليزابيث غاسكل، جويس، كونان دويل، فوكنر، توني موريسون، بورخيس، كافافي، كالفينو، غارسيا ماركيز، غويتيسولو، أتوود، رشدي، موراكامي، باموق… وأحدث الوافدات/ الوافدين إلى النادي هي جميلة أحمد، الروائية الأمريكية من أصل باكستاني، في روايتها «كلّ إشراقة شمس» التي صدرت مؤخراً بالإنكليزية ضمن منشورات جون موراي العريقة في لندن.

هذه رواية أولى من كاتبة ومحامية وباحثة في تاريخ القرون الوسطى، ولم يكن مستغرباً أنها شاءت اقتباس «ألف ليلة وليلة» وشخصية شهرزاد على وجه التحديد من زوايا شتى تخصّ تاريخ الشرق الأوسط عموماً وبلاد فارس وممالك السلاجقة خصوصاً؛ كما تربط تلك الخصوصية بالحملة الصليبية الثالثة (1189-1192) أو «حملة الملوك» كما يصحّ أن تُعرّف استطراداً. وهي ليست رواية تاريخية حصرياً، أو بالمعنى الأضيق نطاقاً للمصطلح، لكنها لا تعفّ البتة عن استلهام حوليات صاخبة وعاصفة وحافلة بوقائع فاصلة لا تعرّف مراحل بأسرها، فحسب؛ بل رسمت، وربما تواصل حتى الساعة رسم الكثير من معالم الصراعات الكونية الجيو – سياسية والثقافية بين قوى عظمى وحضارات متنافسة متصارعة.

الرواية تقع في 38 فصلاً، وتمتد على 432 صفحة، وتُسرد بضمير المتكلم، أو المتكلمة بالأحرى، لأنّ الناطقة هي الراوية شهرزاد نفسها؛ وفي مستهلّ الجزء الأوّل/ الفصل الأوّل تشير أحمد إلى التاريخ «587 للهجرة، 1191 بعد وفاة عيسى». وأمّا الفقرة الأولى فإنها تشدد، من دون إبطاء في الواقع، على وجهة نظر المؤلفة في مدى قوّة الكلام وسطوة الحكي: «ثمة كلمات وبالتالي هنالك كلمات أخرى، كلمات يمكن أن تربط القلوب، تُبطل زواجاً، تمزّق إمبراطورية. كلمات تحترق في فمك مثل قرن فلفل أسود، تكسّر الروح مثل عظمة، تتلكأ في الفضاء حتى يتكفل نفير يوم الحساب بنَتْف الجبال كالقطن وتهشيم الأرض مثل بيضة». وعلى امتداد الصفحات لا تكفّ أحمد عن التشديد على تكريس فاعلية السرد، ضمن تنويعات واقعية فعلية تارة وأخرى سحرية أسطورية تارة أخرى؛ مع حرص لا يكلّ ولا يتراخى على استحضار التاريخ في باطن الأحدوثة الواحدة أو من حولها، وفي الخلفيات الأعرض لحبكة تبدأ من تأجيل الموت عن طريق إرجاء خواتيم الحكاية، ولكنها لا تنتهي عند حروب السلاطين والممالك والأحلاف.

وعلى غير المألوف، والنادر غالباً لدى كاتبات وكتّاب الرواية خصوصاً، تدوّن أحمد تعقيباً على روايتها يبدو بمثابة تبيان إضافي نظري وتقريري هذه المرّة، لسلسلة التمثيلات التي اقترحتها الفصول بصدد ترسيم شخصية شهرزاد: المرأة، ابنة الوزير المسيّسة، مراقِبة العصر وسياساته وقواه وتوازناته، المنحازة في الوعي إلى ثقافتها الوطنية، والساردة الراوية في غمرة هذه المواقع وسواها. تكتب أحمد: «هذا الكتاب قصيدة مديح إلى التاريخ الإسلامي في القرون الوسطى، وإلى تنوّع الثقافة والدين والشعوب والفنّ والأدب والطعام، الذي غذّى الثقافة الكونية طيلة قرون. تلك كانت حقبة أخّاذة، تطوّر خلالها العلم والرياضيات، وتعمقت الفلسفة واللاهوت، ومثلها السياسة! الفتوحات، والاغتصابات، والخيانات، وديناميات العائلة، ومن المخجل كم هي مطمورة هذه الفترة في الأدب (المكتوب باللغة الإنكليزية)». شهرزاد من جانبها ظلت لغزاً محيّراً عند أحمد، من هذه الوجهة أوّلاً: «كيف أمكن لفتاة أن تهب نفسها إلى ملك قاتل، وليس في يدها من سلاح سوى الحكايات؟». ولقد قرأتْ «ألف ليلة وليلة»، وبحثت عن روايات أخرى تحاكيها أو تحاول الإجابة عن السؤال، فلم تجد إجابة شافية تلتقط المرأة الساردة في شكلها الأعلى اكتمالاً؛ ولهذا عكفت على مغامرة زجّ شهرزاد «في بقعة الضوء، حيث عقلها ومخططاتها في الصدارة والمركز، وحيث ينبض بالحياة العالمُ التاريخي الذي توجّب أن تشغله».

صحيح أنّ «كلّ إشراقة شمس» عمل روائي في أوّل المطاف كما في نهايته، بمعنى أنها أيضاً ليست رواية تاريخية على طريقة والتر سكوت أو جرجي زيدان؛ ولكنّ المعطى المقابل الذي لا يقلّ صحّة وامتيازاً وجدارة بالتقدير، هو أنها تعيد تقديم «ألف ليلة وليلة» وشخصية شهرزاد/ المرأة تحديداً، ضمن منظورات بالغة التعمّق والإنصاف، حتى حين يطغى حسّ المحامية النسوية تارة، أو تتعالى نبرة الانحياز إلى منجزات إسلام القرون الوسطى تارة أخرى. وفي هذا، من الإنصاف الافتراض بأنّ شهرزاد السلجوقية قد بزّت شهرزاد الأنغلو – سكسونية كما اقترحها السير ريشارد فرنسيس برتون، مترجم «الليالي» بين عامي 1885 و1888؛ لأنّ الأخير أجاز لنفسه حشر هوامش وتعليقات وشروحات لم تخدم النصّ ذاته بقدر ما ضخّمت الفوارق الثقافية والحضارية بين الغرب والشرق.

رواية جميلة أحمد، مغامرة ثقافية وإبداعية نزيهة وشجاعة، وترجمة برتون سياسة مبطنة سعت إلى دغدغة حسّ الفانتازيا لدى القارئ الغربي؛ وشتان، استطراداً، بين راوية الحكاية وشهرزاد الاستيهام.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي