أنطونان أرتو ومحاولته المتوتّرة لإنصاف فان غوغ

2023-08-06

نبيل مملوك

نقل الشاعر والمترجم اللبناني عيسى مخلوف لغة الشاعر والمخرج المسرحي الفرنسي أنطونان أرتو (1896-1948) المنشوّرة ضمن كتاب بعنوان «فان غوغ منتحر المجتمع» (دار الرّافدين 2021) وهو محاولة نقديّة غلب عليها الانطباع و»النقض» تجاه مسار الرسام الهولندي الأغر ومسار الحياة المجتمعيّة ما بعد وفاته، وهو ما جعلنا بدفع مباشر من أرتو أن نقف عند حدّين الأول شكلي تصنيفي يحاكي الكتاب ومنطلقه العلمي والعملي، والثاني قصدي يتوقف خلف الغايات المضمرة المخبّأة خلف المعطيات التي ضمّها الكتاب على مدى 95 صفحة عربيّة الترجمة…

الانطباعيّة وولادة اللغة المتوتّرة

يقدّم مخلوف في الحواشي الأولى للكتاب صورة مباشرة وواضحة عن الكتاب ولغته الجامحة بغضبها، ملمّحا إلى طبيعة الكاتب وخلفيته النفسية والثقافية والشرارة الأولى المسبّبة لهذا الكتاب… وهو ما يجيده أيّ مترجم يحمل بين دفتيّ ترجمانه المظهر الثقافي والمبنى العاقل الواعي لمدوّنته، وعن اللغة يخبرنا مخلوف خارج الكتاب، أنّ النقّاد الفرنسيون فور صدور الكتاب باللغة الأم قال معظمهم: «يجب ترجمة الكتاب إلى الفرنسية» هذا ما يقودنا إلى طبيعة الكاتب كتابيا، وهي طبيعة منفعلة متأثرة، وأن مقدمة المترجم تؤكد أن النّص بتشنجاته ترجم كما هو مع تعديلات لغوية، ومن علامات انفعال وتوتر اللغة نذكر ثلاثا: سخط أرتو الفظيع وتصويبه نحو المجتمع أوّلا بوصف منظّريه بالرعاع، وثانيا تواتر هجومه على علم النفس متسائلا، «كيف لمجتمع مريض أن يبتكر منظومة نفسانيّة «(بتصرّف) هذه المعطيات سواء ممّا قاله مخلوف، أو ما عبّر أرتو عنه يعدّ تأثرا وانطباعا، خاصة أنّ الأخير حاول منذ مطلع الكتاب أن يهاجم بصفة مدافع عن شخص رحل منذ عقود، يقف على حافّة موته ويدور حول لغته الحارّة، يبحث عبثا عن أسباب وفاة فان غوغ وحين تعثّر بها أخيرا خلص إلى سببين مهّد للأوّل برسائل فان غوغ إلى أخيه، فكان الخبر الذي نقله للرسام الشهير عن ولادة ولد خارج الزواج يعود إليه نسبا، أوّل الأسباب. أمّا الثاني فكان طبيبه الذي هاجمه أرتو خالطا حابل سخطه الشخصي الذاتيّ بنابل ما حدث مع فان غوغ قبيل انتحاره. هذا الهجوم الذي بيّناه قصدا لو أرفق بتصويبات أرتو على حقائق محقّة وأمور منطقيّة لقلنا إن الكتاب يحمل صفة النقد، ولو مشى أرتو بنسق تحليلي متماسك يختصّ ببنية حياة فان غوغ الذاتيّة لقلنا إن الكتاب في عقر دار المدوّنات النقدية، ولو أدخل الانطباع كمسار أخير، لكان تمّ توكيد تصنيف الكتاب على أنّه نقدٌ، لكن الانطباعية التي مشى بها أرتو على طريقة المنظّرين ما قبل البنيوية، وثورة النقد الحديث، التي تأثر العرب بها، كما عند الجاحظ وابن قتيبة وابن المعتزّ في العصر العبّاسي، جعلته قطعة فنية ترتكز على عنصر أدبيّ يتيم وهو اللغة. وبالتالي فالانطباعية جعلت أرتو يكتب بلغة ملتهبة وجامحة ومتوترة تبعده عن النقد وتقحمه في الذات التي قاربها مع مسار حياته الشخصيّة.

غايات وقصديّات مضمرة

ليس تفصيلا أن يذكر عيسى مخلوف مترجم هذا الكتاب أنّ أرتو دوّن انطباعاته بعيد دخوله معرضا يضمّ لوحات فان غوغ، فالمخرج المسرحي الفرنسي كان يبحث عن ثورة في لوحات الفنان المنحاز له، ووجدها حين نقل عن الرسام الهولندي رغبته بكسر السكون المحيط بصورة المقهى، فرسم المقهى بألوان حادّة.. والقصد الأوّل الذي أقحمه الكاتب بصيغة غير مباشرة، أن فان غوغ حاول كسر المعايير الفنية التقليدية والمعقولة والمتوقعة، ما دعا إليه على صعيد الكتابة عدّة نقّاد عالميين منهم الناقد الإيطالي الرّاحل أمبرتو إيكو (1932 2016)

لتكون صرخة أرتو تجاه المجتمع مزدوجة: غاية ظلّها الأول فهم أسلوب فان غوغ ودلالات ألوانه، والثانية صرخة ذاتيّة رافضة للتأقلم مع مجتمع بجهازه النفسيّ ومصحّاته، لا يدفع المريض إلا إلى مزيد من الإرهاق وتحديدا عبر الحكي.. صحيح أن أرتو بيّن صراحة آخر الكتاب هذا القصد، لكن تقنية الترميز التي تعني نقدا تلميحيا ينبغي أن تنتهي في أحايين كثيرة إلى إفصاح، فكيف إذا كنا أمام نسق انطباعيّ رافض.. الرفض والغضب كان قصدا، وترجما عبر رجم ركنين واعيين الأول الفرد، أو الأفراد الذين يشكلون بلا وعيهم وعيا جماعيّا لمجتمع واحد ويصبحون جمهورا، والثاني علم النفس الذي رآه أرتو على أنّه خصمٌ للفنّ وهنا السؤال الكبير، هل رأى أنطونان أرتو في فان غوغ مرآة تعكس عراكه الفني والسرياليّ مع علم النفس؟ أم هي مجرّد انطباعات عاقلة بغضبها؟

صحيح أنّ كل ما أضمره أرتو انزلق منه في آخر السياق، لكنّ هذا الانزلاق يكرّس توتّر لغته وهروبه التام من النقد عبر إرسال صورة سوداء تبرّئ المنتحر من خطاياه وتحاكم المجتمع بصيغتيه الجماهيريّة والعاقلة.

في محاضراته الست التي حملت عنوان «صنعة الشعر» رفض خورخي لويس بورخيس حصر مفهوم الشعر، أو توظيف محاضراته خدمة لتعريف الشعر، وما ينسحب على الشكل الكتابي ينسحب على نقده… في الشكل كان أرتو انطباعيّا وفي الجوهر كان تائها مفكّكا منفصلا عن أي بنية تحليلية، وهو ما يدفع المتلقي لقراءة مدوّنته بعين نقدية خارجية المنهج تعتمد على علم النفس أو بعض إشاراته التي تنجب سؤالا واحدا: «أين هويّة فان غوغ ومصيره؟ في مرآة أرتو المرهق أم في مرايا من لم يتأقلم معهم منتحر المجتمع؟».








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي