تشابكُ المسارات في رواية «قدر وبصمة»

2023-08-05

مهدي غلاب

يطلعنا الروائي التونسي الطيب لبيب على تصدير مزدحم لأفكار منفتحة على فضاء كوني واسع يستهل حضوره منذ الإطلالة الأولى، بإرساء معالم دلالية مجهولة تحضر باكرا منذ اختيار العنوان «قدر وبصمة» الذي ورد على شكل مركب عطفي الاسم الأول (قدر) معطوف عليه والاسم الثاني (بصمة) معطوف، وهو تابع للقدر في الحركة والتنكير والعدد والمصير، ما يعني أن سمات الإرادة والتجاوز محدودة نتيجة ارتباطها لضرورات «قدَرية» محدودة ومطيعة لحتميات الخلق، مهما اتسعت الجرأة. يأتي ذلك في خضم نص روائي مترع بالحركة، رغم تقدم عمر بطله عبد الجبار (تسعيني). فأكد بحضوره الفاعل ملامح شخصيته المؤثرة والمتعددة الوجوه، وهي التي تميزت بحضور رئيسي في كامل ردهات العمل، حتى حسبنا أن بقية الشخوص مكملة لحضوره، أو هي بمثابة خيالات وظلال تدور في جلبابه وتحقق رغبته لترسيم حركته الدؤوبة، وترتيب رحلاته الغريبة بين ثلاثة أضلاع هي الأرض والبحر والفضاء، ما جعل التناول يحتمل انكشاف فصول خارقة وسط غياهب لامتناهية يلتحم فيها التحدي بالانصياع والوجود بالضياع، والتجديف بالتحليق باعتماد نغمة مؤمنة تارة (البعث، باب العرش، صوت سماوي، ريح قدرية) وعبثية تارة أخرى (رقصة النار، بعث جديد، نواميس الطبيعة، ما بين الحياة والموت، التحدي، أعاد الكون إلى بداياته) وهي دلالات تحيلنا إلى مفترقات مصيرية خارقة تُوظف إعجاز الزمن عبر التمطيط والتقليص والمكابرة والرضوخ بتقريب الحيز المكاني تارة وإبعاده طورا لإحكام تسطير الأقدار كما يسطر عالم الهندسة تصميم أبراجه وناطحاته، فتتشكل الأحداث ضمن جولات معادلة ماراثونية محمومة بتوظيف علامات تقاطع لجدلية «جيلية » عبر تقنية حوارية يتقابل فيها عنصرا الأبوية في شخصيتي الكبير (عبد الجبار) من الجيل السابق والصغير (غسان) من الجيل اللاحق، وعنصرا الزوجية في شخصيتي الرجل (البطل + غسان) والمرأة (سليمة + أنيسة) في فضاء «معراجي» واسع يلحق الأرض (الطين، الدود، الرمل، المالح) بالسماء (السحاب، الفضاء، الأحمر).

وهي تقنيات تبدو بمثابة استعراض سردي حركي مكثف ومسترسل لأفكار تتدثر بحلة عجائبية جريئة، استطاع الراوي أن يقرن فيها الخيال بالحقيقة والمجاز بالواقع، بتصوير عجائبي مشوق مكثف ومتتابع يلحق الحلم بالعلم وسط فضاء تتجولُ فيه الشخوص داخل مسارات عمودية، (الأرض/ السماء) وأفقية (الأرض /البحر) بخصائص متحررة ومنفتحة على تخوم الكلمة. غير أن سلم الصعود والتحدي في اتجاهه من الأسفل إلى الأعلى ظهر متأرجحا ومترددا نتيجة التشبث بالمحور الأرضي (الطينة الآدمية، الدود والتراب) من جهة، والبحث المهزوز عن جنات جديدة في عوالم أخرى (مشروع إعادة الولادة). وهو حضور يجعل الشخصيات المحورية تنزل كلما صعدت لتعيد الصعود كلما نزلت ماسكة بمجذاف العبارة الشاردة، شرود القرية الصحراوية الضائعة وسط السراب (الخُبن) فجاءت المضامين مسلحة برسالة إنسانية لدرء العجز والمرض والتصحر والتلوث. وهو تتابع يسافر بالقارئ إلى متون مترعة بالفكر والإنسانيات من التعمير (الخلق) إلى التدمير (الطوفان) فالعودة إلى التعمير مجددا (إعادة الخلق) دون البقاء على قرار يتيم ما دام الوجود منطلقا والإرادة متوفرة وسجل الرغبات مفتوحا على مصراعيه. فالمُؤلف جاء في شكل سرد متتابع دون فصول، خال من العتبات عدا بعض الوقفات الحكمية التي تمهد لمفترقات المصير ولمدلولات الفرد في ضوء الوجود الغامض. فورد العمل بمثابة رسالة إنسانية مترجمة لوجهتين متجاذبتين، الأولى تحديات الفرد الصغير داخل الكون الكبير، والثانية تحديات الفرد الكبير داخل الكون الصغير، وكلها تختزل شخصية أحادية مهيمنة، مع تفاعل وثراء وجهة المسارات المتشعبة (الأرض، المالح، السماء ، الخيال، العلم ،المجاز) التي تشكل الإطار لحدود الفعل والتغيير وتوضح مستوى الإرادة وقيمة الفرد داخل وجود عامر بالتجاذبات.

إن تسييق الفكر الأدبي يتجاوز اللفظ الدال ليُبقي مدلوله مسافرا في متاهات كونية تتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ، لتحقيق الذات في سياق فلسفي علمي وعقائدي فورد النص مشبعا بالأضداد منها (صعود ـ نزول، مد ـ جزر، أمامـ وراء، أرض ـ سماء، بناء ـ دمار، حافٍ ـ منتعل، ماء ـ يابسة، مخير ـ مسير، تظليل ـ إلهام، حياة ـ موت، ثلوج ـ حرائق، شرق ـ غرب) وهي مفردات متقاطعة في المنحى والمعنى تقدم رموزا مفتاحية متفردة تشبك العلم بالأسطورة، والكفر بالعقيدة. فحضور القاموس الإيماني يتضح من خلال العودة إلى الوراء في كل مرة لمراجعة الإمثولات والأحكام السماوية المرجعية المعبرة منها: منكر ونكير وقابيل وهابيل والسماء السابعة وعذاب القبر وباب العرش مرة أخرى، ما يعكس تردد البطل الحقيقي وهو السارد لعدم قدرته على إتمام المهمة المصيرية التي يظهر فيها كقوة خلاقة تبحر في أتون الأزرق «سأركبه صاحيا إلى حيث تصدني ضفة أخرى» وتحلق في غياهب السماوات «ومن كوة صغيرة شفافة صوبت النظر نحو الأرض». ليتراجع من عليائه ويختفي في غمرة زخم مفاهيم دوده وأوحاله.

كاتب تونسي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي