خوان غويتسولو أو فن التمرد

2023-08-03

دانييل هنري باجو | ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف

يسعى الأكاديمي والكاتب الفرنسي دانييل هنري باجو في هذه الدراسة التي تقدم ترجمتها العربية، إلى استقراء تجربة الكاتب الإسباني الراحل خوان غويتسولو في بعديها الإنساني والإبداعي. ولد مبدع «الأربعينية» «عصافير تلوث أعشاشها» و»دفتر سراييفو» في برشلونة عام 1931 وتوفي في مراكش عام 2017 ودفن تنفيذا لوصيته في مدينة العرائش إلى جوار قبر صديقه الكاتب الفرنسي جان جينيه. يعتبر غويتسولو أبرز وجوه الأدب الإسباني لما بعد الحرب الأهلية وتميزت أعماله بفضحه للإرث المادي والرمزي الثقيل لفترة الحكم الديكتاتوري الفرنكوي في إسبانيا، ومساءلته للتاريخ الرسمي الإسباني في خصوص الحضور العربي الإسلامي في الأندلس، ودفاعه عن المهمشين والمضطهدين في العالم.

يعتبر دانييل هنري باجو واحدا من أبرز وجوه الأدب المقارن في فرنسا، وهو متخصص في أدب أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي.

النص:

في الخامس والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2014، كتبت الصحافة الإسبانية أن خوان غويتسولو حصل بالأمس على جائزة ثربانتيس لسنة 2015 احتفاء بقدرته على البحث في اللغة ومراهنته على الحوار بين الثقافات. أجرؤ على القول إنه بتاثير هذه الأسباب البديهية، خصوصا الثانية قررت إدارة تحرير مجلة «ديوجين» مبكرا الاتصال بالكاتب بمجرد الاتفاق على الموضوعات الثلاثة.

أجاب غريتسولو بتلقائية وبلباقة شديدة باقتراحه نصا عن أوكتافيو باث الذي تصادف الاحتفاء في تلك السنة بمئوية ميلاده. كان منح جائزة ثربانتيس قد غير، كما ذهب البعض، آفاق اشتغالنا، وكان أن فرضت فكرة «الاحتفاء» وجودها. وإذا كانت أعماله تبرر هذا الإعجاب والتقدير الثقافي العميق والرحب، فإنها تجد أيضا مكانها المكتمل والتام في ثلاثية «الحدود والعبور والتمازج، منذ أكثر من نصف قرن.

وفي سياق الحوارات التي لا يتردد هذا الرجل المتحفظ والخجول على طريقته في القبول بإجرائها، فإن غويتسولو لا يعدم فرصة للتذكير بحذره الدائم من أي شكل من أشكال التمييز علاوة على الدهشة التي يحسها حيال رواياته الأولى التي يعتبرها «مكتوبة من لدن شخص آخر» وأشير هنا إلى ملحق بابيليا الأدبي لجريدة «أيل باييس» الإسبانية. ليس ثمة إنكار على الإطلاق، وإنما على العكس من ذلك إخلاص دائب لما يعتبره حقيقته العميقة والفريدة، التي لا تقصي التطور علاوة على القطيعة داخل الكتابة والحياة ونمط الحياة، أي ما سوف نطلق عليه اختيارا أخلاقيا شديد التفرد بطبيعة الحال.

تعتبر حياة غويتسولو سلسلة من المنافي الإرادية الحابلة بالاكتشافات والغرابة، وينبغي لهذا التعبير ان يؤخذ بشكل حرفي. كانت باريس البداية، حيث قرر الاستقرار بعد إقامات متعددة عام 1956 وكان يبلغ من العمر حينها خمسة وعشرين عاما. كان غويتسولو المنحدر من أبوين من منطقتي كاتالونيا والباسك، الذي رأى النور في برشلونة يكتشف أثناء ذلك الجنوب «الأندلسي» وإقليم المرية الذي سوف يترك أثرا دائما في تفكيره وأعماله الأدبية. وسوف يصطحب إليها رفيقته مونيك لانج وسيمون دي بوفوار ونيلسون الغرين. وسوف يكثر من أسفاره الى الولايات المتحدة بوصفه أستاذا زائرا، ثم كوبا ابتداء من سنة 1961 لكي يطلع على الحقيقة في عين المكان ولاحقا الجزائر والبوسنة. وبعد فترات إقامة في المغرب اختار ابتداء من عام 1980الإقامة في مراكش. وسوف يواصل انطلاقا من هذه المدينة المختارة ومرفأ الأمان الطواف حول العالم، تلبية لدعوات وجهت اليه أو ما سوف يعتبره مهام يمليها عليه ضميره.

كانت الروايات التي لم يعد يتعرف فيها على نفسه هي تلكم النصوص التي تنتمي إلى فترة الشباب، والتي اعتبره بفضلها صديقه الناقد خوسي ماريا دي كاستولي، الأكثر موهبة من كتاب جيله وأثنى في آن واحد على خياله والتزامه. أستعيد في هذا السياق الطبعة الرابعة سلسلة الجيب من رواية «ريساكا» 1961 الصادرة عن مكتبة المنشورات الإسبانية في باريس والتي أصدرت أيضا رواية «لا شانكا» التي كانت بمثابة سرد وثائقي لحي شعبي في مدينة المرية. كان غويتسولو في ذلك التاريخ قد أصدر ثلاث روايات مترجمة إلى الفرنسية عن دار غاليمار: «لعبة الأيادي» 1956، «حداد في الجنة» 1959 و»يوميات جزيرة» 1961 التي ترجمها موريس إدغار كواندرو. كان كاستولي الذي نشر قبل عقد من الزمان بحثا بعنوان «ساعة القارئ» قد كتب تقديما للرواية أتاح من خلاله للقارئ وفي بضع صفحات رؤية كاملة للرواية الإسبانية في منعطف القرن. وكان غويتسولو قد كتب من جهته مقالة في مجلة «الآداب الجديدة» عام 1955 بعنوان «الرواية الإسبانية داخل قمقم» قدّم فيها صورة لا مهادنة ولا هوادة فيها للرواية الإسبانية. لم يعمد غويتسولو الشاب الذي سيواصل صوغ يوميات لا هوادة فيها ضد الأخلاق، إلى التضحية بالجمالية المهيمنة، الواقعية أو الواقعية الجديدة. ويبقى مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية الهدف المفضل، ولا أرى شخصيا كيف يمكننا ان نتمثل غيره. بيد أننا لن نتحدث في هذا المعرض عن رسم، أو جدارية اجتماعية، أو لوحة متناقضة للطبقات الاجتماعية، أو معطى موضوعي. يبين غويتسولو بالأحرى أنه يوظف قلمه ليس بوصفه آلة تصوير أو مرآة. تحتد النبرة بعض الشيء في رواية «ريساكا» حيث يعمد الكاتب بطريقة منتظمة إلى تفكيك الشعار الخشبي الذي استهل به الرواية: لا مأوى دون نور، ولا وجود لإسبانيا دون خبز. غير أنه في الروايات الأخرى تفقد الشخصيات مشروعيتها أو تحفز على التزام مسافة نقدية حيالها، بسبب سلوكها وما تعبر عنه من مواقف، لا يتعلق الأمر على أن تدين أو تنحي باللائمة، وإنما بان تبين أو تطلع، بواسطة اللجوء الملحوظ والمثير للإعجاب نحو المونولوغ الباطني.

سعى شباب رواية «الأيادي القذرة» إلى قتل رجل سياسي، فيما عمد مراهقو رواية «حداد الجنة» في الأيام الآخيرة للحرب الأهلية في إسبانيا إلى قتل أحد اصدقائهم في تقليد واضح للبالغين. وتعود كلاوديا بطلة رواية «يوميات جزيرة» إلى مدينة طوريمولينوس، دون أن تتعرف على أي شيء. تعتبر هذه الشخوص زوائد فاقدة للمعنى والقيمة، يعانون حسب تعبير كلاوديا من «التعرية» والخواء التام. قرأت أجهزة الرقابة الرواية بدقة وخلصت إلى ما يلي: ليست ثمة شخصية عادية على امتداد 171 صفحة، لواطيون وسحاقيات ومصابون بالعجز الجنسي وزناة. ولا يمكننا أن نقبل بفكرة كونها تعبيرا عن حياة عادية، وليس ثمة غير الإباحية والخلاعة، وسوف نتذكر إلحاح الرقيب على إبراز ضوابط «معيارية» يقوم بالاحتكام إليها في تقييم الإبداع الروائي. ثمة في الرواية ذاتها احتفاء باذخ بمنطقة الكوت دازور الفرنسية، ولعبة الفضاءات والإيحاءات. ويحفزنا كل ذلك على التفكير أحيانا في حكاية على منوال فرانسواز ساغان وبجرعات زائدة من اللذوعة والحدة والعنف. جرى تمثل الرواية في البداية بوصفها سيناريو لفيلم من بطولة لوسيا بوسي بطلة فيلم «موت سائق دراجة» للمخرج خوان بارديم، الذي يعري نفاق الطبقة البورجوازية خلال عقد الخمسينيات. تقودنا الإحالات المتحفظة والمشبعة بالسخرية في رواية «يوميات جزيرة» على سنة النصر والعيد الوطني الذي يحتفي بذكرى القديس جاك سانتياغو إلى حقائق لم تكف عن إثبات حضورها وإن كنا قد استمعنا في أثناء ذلك إلى لويس آرمسترونغ وليونيل هامبتونغ. سوف تنصرم ثلاث أو أربع سنوات، وستحتفل إسبانيا عام 1964 بالذكرى الخامسة والعشرين لاستتباب السلام. بيد أن خوان غويتسولو سيجد نفسه في الآن نفسه منساقا إلى «أزمة ضمير» بالمعنى الحرفي للكلمة. وتشكل مقالته المنشورة في مجلة «إكسبريس» الباريسية «إسبانيا بعد خمس وعشرين عاما: لن نموت بعد الآن في مدريد» تجسيدا لهذا الوعي وبالنسبة لعدد من المعارضين للنظام تحليلا ساخرا وقابلا للإدانة.

تسجل «يوميات جزيرة» والعديد من الروايات والقصص القصيرة التحولات المادية والاجتماعية والأخلاقية، التي تحدث في مجتمع ما وطبقة بورجوازية جديدة، بيد أن السياحة التي بدأت في بسط هيمنتها والتحديث النسبي للبلاد ورأسمالية جديدة تحتد باطراد لم يخلخلا البتة أسس نظام سوف يصفه غويتسولو وآخرون بالوطنية الكاثوليكية. يتحتم إذن التصدي لثوابت ودعائم أيديولوجية، وينبغي للمعركة أن تكون ثقافية وسياسية في آن واحد. وكان على الروائي الذي فكر في ما سبق في «الاستتيقا الروائية» 1959 أن يراجع بعمق وحميمية اكثر وضعيته الخاصة، وسوف يلتزم غويتسولو منذ تلك اللحظة بما سوف نعتبره إخلاصا سياسيا وأخلاقيا.

تتوسل المراجعة النقدية التي تخلص إلى مساءلة الذات بالتخييل، أو بالأحرى أنواع من التخييل الذاتي. ومن المحتمل أن يكون هذا التحول أو التغيير في الكتابة منبعثا من نزعة ذاتية أيديولوجية كما سبق أن ذكرنا. وما يهم في هذا السياق يتمثل في التغير الذي طال إيقاع الكتابة ولعبة الاستشهادات والإيحاءات الأدبية والاستعمال المنتظم لضمير المخاطب، بتاثير من الشاعر الإسباني المنفي الكبير لويس غيرنودا. ثمة أيضا خلقه لضعف، أو شخص بديل يتمثل في الفارو مينديولا المتحرر من الماضي والحاضر والشبيه بيوليسيس الذي يبحر بشكل اختياري في مياه مضطربة. ثمة في البداية «وثائق هوية» 1968 ثم «دون خوليان» 1971 وفي الأخير «خوان الذي لا أرض له» 1977 التي تنتهي بصفحة مكتوبة باللغة العربية وغير مترجمة. وهي الرواية التي صدرت قبل فترة قصيرة من وفاة فرانسيسكو فرانكو. كان غويتسولو حين وفاة الديكتاتور الإسباني قد أصدر سبعة عشر كتابا، وقد تمكن بالكاد من نشر ستة منها في إسبانيا. غير أن أحد أبرز الشعراء والنقاد الكاتالونيين بير جيمفيرير، أثنى بحماسة على «غويتسولو الجديد» خصوصا في روايته «دون خوليان» الذي اعتبره العمل الأكثر خلخلة وتثويرا في الأدب الإسباني. وسوف يعاد إصدار هذه الأعمال الثلاثة عام 2004 في كتاب واحد بعنوان «ثلاثية الشر».

أصبح غويتسولو مع بداية عقد الستينيات بالنسبة لصحافة إسبانية معينة وتخصيصا الفرنكوية خائنا. وسوف يتحمل بتأثير ذلك وزر الصور والأشكال النمطية الأخلاقية للخيانة، وأن يصبح تجسيدا لدون خوليان الذي يعتبر أكبر تجسيد للخيانة في تاريخ إسبانيا. كان هذا الرجل شبه مجهول بالنسبة للقراء غير الإسبان، وكان حاكما لمدينة سبتة، ومصدر إزعاج للتأريخ الإسباني. كان أبا لكافا ذات الجمال الأخاذ، التي وقع في غرامها اخر الملوك القوطيين الدون رودريغو. كان في المقدور أن نتحدث عن اغتصاب وقد رغب ابوها في الانتقام، بان انحاز للعدو وسلم شبه الجزيرة الإسبانية للغاصب المغربي. ونحن نستند في هذا السياق للتأريخ العام الذي كتب بأمر من الملك الفونسو الحكيم، الذي تمت تكملته بمحكيات رومانسية كان أكثرها بروزا تلك الواردة في رواية دون كيخوته لثربانتيس التي تجلي ضياع إسبانيا، باعتبارها مثيلا للفردوس المفقود، وتحول رغبة دون رودريغو إلى مثيل للخطيئة الأولى لآدم.

يبدأ المشهد في مدينة طنجة؛ إذ أن السارد الذي سيتضاعف يدخل إلى شبه الجزيرة الإسبانية بشكل معكوس؛ أي من الجانب الآخر لمضيق البوغاز المقابل لجبل طارق، الذي انطلق منه طارق بن زياد رفيق خوليان، الذي تحول إلى «عربي» بشارب كث يرشو السارد ويضطلع لصالحه بدور الدليل. وانطلاقا من طنجة يقوم السارد بمعارضة وذم وطنه، الذي يعتبره بلد السادة والعبيد وأشبه ما يكون بزوجة اب فظيعة. كانت طنجة اختيارا في النهاية لأنها المدينة التي ذكرها جان جينيه والذي كان غويتسولو يمحضه إعجابا كبيرا في كتابه «يوميات لص» واعتبرها وكرا للخونة.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي