خنتاي: حياة الإنسان سيمفونية يعزفها الإدراك

2023-08-03

أماني فارس أبو مرة

يقدم الكاتب السوداني محمود عوض عبد الكريم موسى عبد اللطيف في روايته «خنتاي» الصادرة عام 2021، عن أوستن ماكولي للنشر، سردا يتناول فيه الإدراك، ووظيفته في الجسد، وكيف أنّ حياة الإنسان هي عبارة عن سيمفونيه يعزفها الإدراك الذي يتطوّر بشكل مستمر، بانتقاله من جسد إلى جسد، وبما يسجّله من غرائز قد تعلّمها من حيواته السابقة في أجساد كثيرة خلال مسيرته. فيعمد الكاتب وبطريقة الخيال العلمي إلى تفسير الكثير من الغرائز والأفعال، والمكتسبات بطريقته الخاصة فيرجعها إلى أصولها، ويهدف برؤيته العلمية الفلسفية إلى تحفيز العقل على التساؤل والشك والتجريد.

يعرّف الإدراك على أنّه «جينة يتم توارثها، وينتقل جيلا بعد جيل، فيرث الأبناء إدراكهم من الآباء، ثم يتم صقلها في المجتمع» كمهارة المطاردة التي ورثها (زورا وهورام) إبنا (مو) وصقلاها معه بالتدريب. فالإدراك عضو محسوس في جسد الكائن الحي، ووعي موروث يخدع العقل بالغرائز.

«خنتاي»هو إدراك في الحمض النووي لشخصية مو، يتحكم في كل شيء في الجسد، ويوسوس للعقل، بما يجب أن يفعل أو لا يفعل، لتكون أوّل حياة لخنتاي على هذا الكوكب. غير أنّ أول ما يزرعه الإدراك في جسد مستضيفه هو مبدآن أساسيان هما الرغبة بالتكاثر، والرغبة في البقاء لأنهما يضمنان لخنتاي حيوات أخرى، والانتقال من جسد إلى جسد. ليصل إلى أنّ الإدراك عبارة عن تقاطعات لأنماط ما قبله من الإدراك، ويسعى إلى تكرار نفسه كإدراك جديد في مستضيف جديد له.

نبذة عن الرواية

تتناول الرواية الحديث عن قبيلة سنجواي التي تقطن وسط غابة استوائية صغيرة في شرق القارة الافريقية، تتكوّن من الصيادين الذين تكاثروا عبر مئات السنين وتكاثرت معهم عاداتهم وتقاليدهم. وفي هذه القبيلة أسرة (زالخان) ابن سنجوي وهو أول ما وطئت قدمه سنجواي. تُقسم المهام في سنجواي بين أفرادها بطرق منظمة، فالنساء يقطفن الثمار من البستان المجاور، ويتوجهن بعد الظهيرة لحظائر الأبقار لجلب المياه لها وإطعامها، ثم حلب ألبانها لتحضير مشروب العونات وهو عبارة عن الحليب والعسل. أمّا الذكور فيصطادون الحيوانات، ويجمعون العسل من غابات الجبال المجاورة، وتقوم الفتيات بجلب المياه من الجدول، والصبية يتدربون على الصيد.

طقوس القبيلة

يحتفل أبناء القبيلة ثلاث مرات، احتفالين يتزامنان مع عودة الرجال من رحلات الصيد، والثالث هو يوم التكاثر الذي تجتمع فيه الإناث والذكور، حتى يختار أحدهم شريكه وفقا لمواصفات محددة لكل شخص في الآخر، ومن هنا انبثقت معايير الجمال ودونها الإدراك وترسخت في وعي الإنسان.

مكتبة الغرائز

ويظهر السرد أن مكتبة الغرائز هي التي يتم فيها تخزين الذكريات المقبلة من أجهزة إدخال المعلومات الأساسية العين والأذن والأنف، فيسجل فيها الصور والأصوات والروائح. كغريزة الانتباه التي أصبحت الرد الطبيعي لخنتاي، إذا دخلت الأذن كلمة مو وغريزة الحياء التي تكوّنت نتيجة تغطية الأعضاء التناسلية لكيلا تصاب بالأمراض، فسجلها الإدراك على شكل غريزة الحياء، وعلى أنّها مناطق يجب أن تغطى، ولا تظهر للعلن وتنكشف على الطبيعة والآخر. غريزة الحماس التي اكتسبها مو من خلال تقليد والده، غريزة التكافل الاجتماعي وغريزة المتعة، والشهوة والغنج عند الفتيات، والعطف والخوف والمقدسات، والغيرة والأرق وغيرها من الغرائز التي تعلّمها مو من قبيلته، ومن التركيز على أفعالهم وما يقومون به، بالإضافة إلى أن الإدراك موروث جيني فينقل معه الكثير من الغرائز من الآباء إلى جسد مستضيفه الجديد.

الترفيه واللعب

كما يبيّن السرد أنّ المجتمع الإنساني لم يعرف سابقا الموسيقى والرقص، إنّما كانت عبارة عن حركات عفوية لطرد الكسل والخمول بعد الطعام. فسُجل الغناء والرقص في خزائن الغرائز كترفيه، وارتبطت أيضا بتناول الطعام والشراب. ليصل إلى أنّ فكرة كرة القدم أتت من المنافسة التي كان يقيمها الشبان مع بعضهم بعضا، في تقاذف رؤوس الحيوانات التي يقطعونها، وتحولت مع الوقت وبشكل تدريجي وتطوّري إلى نوع من الفنون يمارسه الإنسان بمتعة.

الموت

وتُظهر الرواية رد الفعل الذي يقوم به الإدراك أمام مشهد الموت، وهو أنّ الإدراك عند مواجهة الموت، وعندما يفقد اتصاله بأجهزة إدخال المعلومات البشرية، يبحث عشوائيا في مكتبته التي لا يجد فيها سوى شيفرات مطموسة تشبه الفراغ، انتقلت من الإدراك نفسه بفعل التوارث الجيني من الإنسان الأول الذي كان مستضيفا له الإدراك قبل انتقاله للجسد الجديد، فلا يجيد قراءة الفراغ، لذلك يكتفي بالتوقف والبقاء في هذا الجسد المستضيف. وعندما يصل الإنسان إلى عمر الأربعين، يعني ذلك بلوغ نهاية العمر لذلك يقوم بما يسمى (طقس الهاوية) فيقوم الأخ أو الابن بدفعه إلى الهاوية. وانطفاء الإدراك في جسد بشري يعني هي نهاية لمعاناة هذا الجسد.

الطبخ

وتفيد الرواية بأنّ الطبخ قد حقق قفزة نوعية في البنية الجسمانية للإنسان آنذاك، فانتفل من أكل النباتات إلى أكل اللحوم ثم عندما اكتشف النار اكتشف الطهي، ووفرت هذه العملية على الإنسان القديم الكثير من الطاقة والزمن، لاستهلاكهما في التفكير بدلا من الهضم.

اللغة

ويتضح من السرد أنّ لغة التواصل بين بشر المجتمعات في ذلك الوقت فقيرة، وتقتصر على كلمات قليلة، فكانت المرأة تُطلق على الرجل الذي حملت منه مطعمي، والرجل يطلق على المرأة التي تحمل ابنه تابعتي إلى أن تنجب وترجع بعد ذلك إلى والديها، ثم تعود إلى حفلات التكاثر لتحمل من رجل آخر. ومن الأفكار الثورية التي قدّمها الكاتب في روايته وسلط الضوء من خلالها على بعض ما هو سائد، وما يتقاطع مع ما تعود عليه الآخرون، ومع بعض المسلمات التي تؤكسد العقل وتجعل الإنسان يمشي خلفها دون أدنى شك بحقيقتها وصحتها. فكرة الحيلة والخداع بالاعتماد على الأساطير بغية تحقيق مآرب شخصية، حيث جسّد ذلك من خلال شخصيتي دومو وشقيقه درامن. دومو الرجل المقدس، الذي أقنع المجتمع بأكمله بأنّ كل ما يقوم به هو تلبية لطلبات القوى الوجودية التي يملك صلة تواصل معها، بهدف بسط سيطرته وسلطته عليهم، وهذا ما يشبه واقعنا اليوم في السعي إلى تسطيح العقول بهدف السيطرة عليها، حيث يتدخل دومو بشؤون الناس، بمرضهم وبضعفهم وبقوتهم، وبما يتعلق بالإنجاب وغيرها. لتُكشَف حقيقته في آخر المطاف بعد خوفه وهروبه من الضباع في غابة الصندل، هذه الغابة التي كان يدّعي أنّها مقدسة ويدّعي أنّ النمور التي تسكن فيها حيوانات مقدسة لها أجنحة وذيول نارية، لا يمكن قتلها. أمّا درامن فكان يسرق اللحوم من بيوت الناس بمساعدة دومو، الذي كان يخبره بمواعيد خروج أبناء القبيلة من بيوتهم. كما نجد في هذه الرواية تفاعلا نصيا مع فكرة الانتقاء الطبيعي (الانتخاب الطبيعي) هذا المبدأ الذي يقوم على نقل جميع الصفات التي يحملها الآباء، أي الأصول إلى الأبناء أي الفروع، سواء كانت صفات مادية أو معنوية وأصلية أو مكتسبة، لذلك يسعى خنتاي إلى جعل مستضيفه مو يتكاثر أكثر ليضمن دخوله في المستقبل إلى جسد ذي بنية قوية وصحة جيدة. لأنّ» الانتخاب الطبيعي سيحرم الضعفاء من أبناء مو من التكاثر فينجو من الوجود في جسد ضعيف».

ولا بدّ من ذكر أنّ الكاتب اعتمد اللغة العلمية إلى جانب اللغة الأدبية، خاصّة في سرده قصة الكون، فالخطاب العلمي عادة ما يدعم الرؤيا بالأدلة والحجج والبراهين العلمية. ويفرغ عبر استخدامه للمصطلحات العلميّة ما يعتمل في فكره من رؤى وتصورات، تترجم حالة الثائر والمعارض للكثير من الأفكار والأفعال التي تتقاطع مع حياتنا الواقعية. ويظهر في هذا النسيج السردي الوصف الحركي، كوصف الكاتب لمشهد جري مو وراءه والده زورنا، بعد أن أخذ ثيابه منه، ليكون وصفا فاعلا على لسان الراوي، الذي لم يكن بموقع المهيمن على السرد، ففي بعض الأماكن ترك الكلام، وسّلم المايكرفون إلى غيره، كما في فصل البداية حين بدأ الإدراك بالتكلّم: «مرحبا أنا خنتاي إدراك في الحمض النووي لهذا الطفل الذي لا أعلم اسمه حقيقة…». وفصل الكائنات الحية عندما استلم الحديث أحد الفيروسات: «إنني فيروس أصاب الإنسان واختلط بجيناته».

ويختتم عبد اللطيف سرده في هذه الرواية التي بلغت 26 فصلا، والتي اتسمت لغتها بالوضوح والسلاسة، بالانتقال إلى مجتمع جديد أكثر تطورا، من خلال شخصية عادل، وهو الشاب السوداني والطالب الجامعي الذي يشكل امتدادا لشخصية مو وتطورا للإدراك خنتاي الذي انتقل بعد انطفائه في جسد مو للاستنارة في جسد عادل بعد مرورو أكثر من خمسة آلاف عام، توالى خلالها عدد من الإدراكات داخل عدد من الأنسال البشرية، سُجّل من خلالها عدد مهول من الغرائز إلّا غريزة الموت التي لم يستطع أي إدراك توثيقها، وقد رافق هذا الانتقال انتقال وتغير في الغرائز، وبدا هذا واضحا من خلال عملية التكاثر التي أصبحت تتم عن طريقة منظومة اجتماعية اسمها الأسرة، ومن خلال غريزة الحياء التي شملت الجسد بأكلمه وليس فقط الأعضاء التناسلية.

كاتبة سورية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي