الحلو والمر في الرحلة الباريسية لعائشة بلحاج

2023-08-02

سلوى ياسين

سفر المرأة حدثٌ رائع، لا يشبه سفر الرجل إطلاقاً، الرجل الذي يبدو أنه نال لأسباب كثيرة لقب ملك الفضاء العام، يتنقل فيه دون قيود. سفرُ المرأة بهجة محلوم بها على الدوام، ليس فقط بسبب قيود المجتمع أو الدين، بل لأن تحقّقه صعب بسبب التزامات الزواج والأمومة. أما بالنسبة للكاتبة والشاعرة عائشة بلحاج، فالسفر موعد ملهم للكتابة عن رحلتها الخاصة إلى باريس، التي تتحوّل مع التوغل داخل الكتاب، إلى باريسها الخاصة، في كتابها «على جناح دراجة» الحائز جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة هذا العام 2023، حيث تأخذنا الكاتبة نحو اكتشاف الأماكن بهدوء. ولأنها مثل الشاعر توماس ترانسترومر مقتنعة بأن المؤمن دائماً في حركة، تتنقل الكاتبة داخل باريس بتؤدّة، كما لو أنها تخطو على ثوب من المخمل والموسلين، لنتذوّق معها، تاريخ باريس الفكري والأدبي. لنشعر بأننا لا نقرأ بل نلتهم حلوى «مُورانغ» أو قطعة من الكرواسون.

أقتفي خطو عائشة بلحاج، وأتعثّر بأسى شفيف، تعلن عنه منذ السطور الأولى قائلة: «لقد قطّعت الحياة أطرافي إلى أجزاء». هذه الجملة بمثابة «مانفستو» خاص بها، يصف ببلاغة حياتها، وحياة كثيرات من نساء جيلنا ومنطقتنا الجغرافية والثقافية. لقد قصقصت الحياة أجنحتنا بأدواتها المتنوّعة، عبر آلتها العملاقة: الأسرة، التي تتوارث تعاليم الأمّهات عبر التقاليد المعجونة بالمقدس، وبقيادة صارمة من الآباء «حراس المعابد». كان من الممكن أن نحتفظ بأجنحتنا، وأن تكون الأمكنة التي نتحرك داخلها أكتر اتساعاً، والتي لو كنّا داخلها في مأمن من قطاع الطرق، فنحن لسنا أبدا في مأمن من التأويل السيئ. المرأة المسافرة بمفردها مشروع جاهز لسوء النوايا. كما أنها تكتشف أشياء كثيرة في وقت متأخر، بينما كان من المفروض أن تعيشها في وقت أبكر بكثير، حتى لا تعلق بها أحلام الصبا حتى عمرٍ صارت فيه زوجة وأمّاً وربما جدّة، فلا شيء يختفي، بل كلّ شيء يتحول ويتكدس داخلنا.

في هذه الرّحلة تتأمل الكاتبة حياتها، ومعها حياة الكثير من النّساء، وهي لا تقول سوى الحقيقة، ولا تسقي نفسها أو بنات جنسها الأكاذيب. نعم لقد جاءت الرحلة، ومعها الحرية والتحرر، متأخرة بعدما تسلّل اليأس. لكنها مع ذلك لا تُفلت أيّ لحظة في باريس، لتكتشف باريس الكتب والمتاحف واللوحات. باريس، بوجهها الفني والأدبي المذهل، الذي لا يمكن إلّا أن تقف الكاتبة أمامه مندهشة قائلة: «أهذه أنت يا باريس؟» باريس التي التقَت بها منذ أمد بعيد، حين كانت صبيّة تقرأ الكتب والمجلات والروايات. باريس تظهر في كل مرّة بوجه، بعد أن انتقلت من مجرد صورة جامدة في صفحات الكتب إلى حقيقة حية متحركة.

عبر فصول الكتاب، لم تكن الكاتبة منفصلة عن حياتها وذكرياتها. تتجوّل بين المعالم والمتاحف، وتُطل عبر زجاج الذاكرة السّميك والشفاف، على كل ما جعلها تحب هذه المدينة العظيمة والاستثنائية، بعد سنوات من التوق إلى زيارتها. تصف الكاتبة ببراعة تداخل التاريخي والفني والأدبي في باريس. تحكي تقاطع الشخصي والفكري في فن وحياة كاتبات وكتاب وفنانين، حتى ليشعر الكاتب بأنّ الكلمات قد تختفي في أي لحظة، لتترك المساحة للخيال ليكمل الرحلة، عبر استحضار أناييس نان وسيمون دوبوفوار ورودان وغيرهم. إن باريس لا تُذكر دون أعلامها الفكرية، الفنية والأدبية.

وأنا أقرأ الرّحلة شعرتُ بالأسى الشفيف الذي يطل برأسه ويختفي. أسى نعرفه كنساء في مجتمعات أعدّت مربّعاً صغيراً نعيش داخله، لا نتجاوز مساحته، مربعا جاهزا قبل حتى أن نأتي إلى العالم. لقد منحت باريس للكاتبة أفقاً جديداً تنفست عبره هواء الحرية، وطعما مختلفا لوجودها. حتى أنها تسأل عما يفعله الجوع بالإنسان، عما يفعله جوع الحرية بالمرأة؟ كما لو لتخبرنا أنها في سفرها هذا امتلكت أخيرا جناحين حقيقيين، حلقت بهما حتى ضفاف نهر السين، ولم يعد الجناحان من مجاز وكلمات، كما في الشعر والكتابة. وندرك، مثلما تُدرك، أنّ هذه الحرية جاءت متأخرة. نشعر بأسى كثيف في إيقاع الكلمات، وبعد الانتهاء من قراءة الكتاب، نتساءل: هل على المرأة دائما أن تختار بين الفن والسعادة، بين الكتابة والزواج والأمومة؟ هل علينا، كما توهمنا الحياة، أن نضحّي بهذا لنحصل على ذاك؟ هل ينقص فرحنا بالتحرّر حين نحصل عليه بعد زمن من الانتظار؟ أم أن باريس ستظلّ على الدوام مذهلة ورائعة، لأن: «ما تفعله باريس بالمرأة شيء لا يصدق» مثلما تخبرنا الكاتبة.

كاتبة مغربية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي