رواية عن حياة مي زيادة وعذاباتها: نصف الحياة لعيش السعادة ونصف لتجرّع الألم

2023-07-31

حسن داوود

لم تشأ منهل السراج أن تذهب بعيدا في تأويل ما عاشته مي زيادة، ولن تستطيع، من ناحية أخرى، أن تقترح محورا جديدا تنتظم حياة بطلتها حوله. يعود ذلك غالبا إلى أن تلك الحياة استقرّت على أركان يعرفها الجميع، أولّها تعلُّق كتّاب مصر ورجالاتها بالأديبة الفاتنة المقيمة بينهم؛ وثانيها غرامها بجبران خليل جبران، دون أن يتاح لها وله أن يوجدا مرّة في مكان واحد؛ وثالثها جنونها، أو ما أشيع عنه.

الكاتبة منهل السراج لم تَحِد عن هذه المحاور، بل إنها تركتها ترسم التتابع السردي لروايتها، في ما يتعدّى المقدّمات المتعلقة بولادة مي في الناصرة وسعادة أهلها بقدومها، ثم وفاة أخيها الأصغر ورغبتها في التعلّم وإجادتها اللغات الكثيرة والمتفاوت عددها، بين سيرة لها وأخرى، يمكن تقسيم الرواية إلى فصول أولها عيش مي في مصر وزهوها بصالونها الأدبي، الذي كان يؤمّه كتاب مصر الكبار الذين من بينهم، حسبما يُذكر في الكتاب، أحمد شوقي وطه حسين وعباس محمود العقّاد وأحمد حسن الزيات، ثم وليّ الدين يكن، وأيضا شيخ الأزهر الذي علّقت فاطمة الشغّالة على زيارته بقولها: «وجهه هذا يهيم بعبادة ربّه أو بحبّ الآنسة مي؟».

كانت ندوات الثلاثاء التي تضمّ هؤلاء الكبار تجري في كنف السعادة العائلية، حيث كان الوالدان الراعيان لمي ما يزالان على قيد الحياة.. ويستكمل هذه الهناءة وجودُ الشغالة والسفرجي الوفيين، والدالّ وجودُهما على يسر اجتماعي كان من العناصر الصانعة لتلك السعادة. تلك الهناءة المصحوبة بالنجاح والجمال معا ستتحول الإفاضة في وصفها إلى إمعان في وصف معاناة التعاسة، التي ستهيمن على الفصل الأخير من الرواية، فكل ما صار إليه حال مي المغرق في تعاسته، سيجد وقدَه في تذكّرها لما كانت عليه في سنوات تألّقها. هو الحنين يُستحضَر فقط لبعث الألم. كل شيء في الماضي سينقلب في الحاضر إلى توجّع ويأس، وإذ تتذكّر ميّ رجالات أدب مصر في صالونها فلكي تقول، إن جميع هؤلاء انفضّوا عنها بعد مرضها، حين اتصل بها طه حسين، إثر عودتها من مستشفى العصفورية في بيروت، أجابته بأنه كان قد أدار ظهره لها، بل كان بين الذين تعرّضوا لها بالكتابة، وإذ تتذكّر كلمات الإطراء والمديح يحزنها شيب شعرها وذهاب جمالها ووجع أسنانها الذي عرفت الكاتبة السراج كيف تمعن في استحضاره.

جبران خليل جبران عرفت علاقتها به ذاك الانتقال من الغرام إلى الأسى لفقده. وتذكر الكاتبة السراج أن عدم تحفظها على إعلان تعلّقها به كان سببه رغبتها في إيقاف الآملين بالوصال بها، وفي طليعتهم العقّاد، عند حدّهم. في الكتاب نقرأ كلاما لمي لا نعرف إن كان مقتطفا من نصّ لها أم هو من ابتكار الكاتبة: «معظمهم ينظرون إليّ كأنثى، ينصتون لصوتي أكثر مما ينصتون لمعاني كلماتي، وينظرون لجسدي أكثر من التماع عيني بالفكرة مصغية أو متكلّمة».

في مكان آخر من الكلام على العلاقة بجبران تكتب السرّاج: «وما حلمها بقاطن نيويورك إلا استبعادا لشبح الحب، وتقرّبا من الحب الحقيقي». هل القصد من ذلك الحبّ الصوفي، المنزّه عن الاتصال الجسدي؟ وإلا كيف أدارت مي ظهرها لجميع معجبيها وأبقت علاقتها مع مَن هو مقيم في أبعد الأمكنة: «عقدان من الزمن لم يلتقيا لكن المراسلات استمرّت بينهما، ولم تتوقف إلا بتوقف البريد أثناء الحروب، ولم تنته المراسلات بينهما إلا بموت أحدهما». أيضا، هل كان ذلك من أجل إبقاء نفسها عذراء، وهذا ما ظلّ عليه حالها كما يتردّد في صفحات الرواية الأخيرة. كانت قد عاشت عذاباتها وحيدة، حين لم يعد جبران على قيد الحياة. لكن مرّة أخرى لا نعرف إن كان مرض مي النفسي هو الذي أوجب دخولها إلى مستشفى العصفورية، أم أنها مكيدة ابن عمّها جوزيف الطامع في ثروتها، هنا قامت منهل السراج بالإبقاء على الاحتمالين معا، فمرّة أو مرّتين تذكر ما يدلّ إلى تشوشّ مي العقلي، وفي ما تلا ذلك تستمرّ الحكاية المعروفة عن إخراج جوزيف لها عنوة من بيتها القاهري، وحملها إلى بيروت، وإلى المستشفى تاليا. كان الانحياز إلى أيّ من هذين الاحتمالين سيعرّض ذلك الجزء من السيرة المعروفة، الراسخ في الأذهان، الجزء المشوِّش، إلى الاهتزاز، وأن يحسم في أمر ظلّ متوافَقا على التباسه على مدار عقود عديدة.

لم تغيّر الكاتبة السراج في المحطات الأساسية لسيرة بطلتها. اكتفت بتأويل التفاصيل، كما في توسيع دائرة عذابات بطلتها، وسّعت خاتمة الكتاب لتحتل ما يكاد يقارب نصفه الأخير لكتابة شكوى مي من قدَرها ومرضها ومأساتها. لا يحدث شيء يُذكر في هذا الجزء سوى التأسف الأليم على الماضي الذي انقضى جميعه، أو جميع ما كان فيه. خسرت مي زيادة كل شيء، وفي مقدّم ذلك، كما يرى الكتاب، قدرتها على الكتابة. هذه الأخيرة كان يمكن لها، لو أمكنت العودة إليها، أن تُنقذ شيئا من التراجيديا التي لن توصل إلى هذا القدر من الألم، إن لم تكن تامة كاملة.

«لا تذرني فردا – رواية مستلهمة من حياة مي زيادة» رواية للكاتبة منهل السراج صدرت عن دار «جداول في 216 صفحة سنة 2023.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي