رواية «آرام» بين إنسانية مفقودة وأحلام موؤدة

2023-07-27

موسى إبراهيم أبو رياش

تتقاطع رواية «آرام» للأردنية فاطمة محمد الهلالات مع روايتها الأولى «77 خريفا» بأنهما روايتا أفكار ورؤى، حيث تشتغل رواية «آرام» على الذات الإنسانية المتعبة، المشتتة، المتشظية، الحائرة، الضائعة في دروب الحياة، الذات النظيفة في وجه الخراب والفساد والسواد. وبينما غلب الحوار «الديالوج» على الرواية الأولى، فقد غلب حوار الذات «المونولوج» على الثانية؛ في إشارة واضحة إلى الوحدة وغربة الذات وحيرتها، وتوجه المرء إلى الابتعاد عن الآخر، في محيط يعج بالخبث والغثاء والسطحية والسفاهة، محيط لا إنساني في مجمله، لا يقدر قيمة الإنسان، ولا المشتركات الإنسانية، لكنه ينتصر للاختلافات المحدودة التي لا يد له فيها. وتأتي الصرخة مدوية «كُنّ إِنسانا أَيّا كان مَذْهبكَ» فما يعنيني من أصلك وفصلك ودينك ولونك وموطنك وطولك وقصرك ومنصبك؟ ما يهمني أن تكون إنسانا معي ومع غيري، ليس لأجلنا، بل لأجلك أنت؛ فمن المخجل أن تنتسب للإنسانية وأنت منها براء!!

تناولت الرواية موضوعات كثيرة مثل الحسد والغيرة، والهجرة من أجل العمل والحصول على فرص أفضل، والخداع والتآمر، والنفاق، والصداقة، والحب، والخلافات الزوجية، والتعصب المذهبي، والمعاناة الحدودية في الشرق، التي يقابلها سرعة ورقي في الغرب، لكن كانت «الأحلام» هي الموضوع الرئيس في الرواية، والمحرك لمعظم أحداثها من خلال شخصيتها الرئيسية «يوسف» الذي تتحقق أحلامه، ويسعى خلفها بعد أن حاول تجاهلها كثيرا. وقد أهدت الكاتبة روايتها للأحلام الميتة والموؤدة التي ما زالت تنتظر: «لكل حلم وُئِدَ على مقصلة الحياة.. لكل حلم تاه وضلَّ الطريق.. لكل حلم قال «احذر» ومضى.. لأحلام الأحياء والأموات.. لكل قلب اعتاد دفن حلمه قبل أن يُولد.. لحلم جاء لميت؛ ليحييه.. لكل حلم ما زال ينتظر.. ينتظر الحياة.. أُهدي كتابي للأحلام».

اتبع حلمك

يمكن القول إن شعار الرواية الرئيس والموجه ليوسف ولنا من بعده هو «إن كنت مؤمنا بحلمك.. فاتبعه أينما كان» وعلى الرغم مما في هذا الشعار من إغراء، ودافعية للمغامرة والإقدام، إلا أن خاتمة الرواية تعطي انطباعا معاكسا ومغايرا؛ فـ«آرام» التي كانت قبلة يوسف في أحلامه ونجمه الذي يبحث عنه، لم يكن يعلم مدلول هذا الاسم؛ هل هو ذكر أم أنثى أم مكان.. أم؟ لكن بقي الاسم عالقا، يأتيه في أحلامه، وتنقل من مكان إلى مكان علّه يجد بغيته، ويعثر على ضالته «آرام» وفي موقف صعب وعصيب، في أثناء محاكمة لمصداقيته، يتعرف على «آرام» زميلته في الشركة، وشريكته في التهمة، وشبيهته في المصداقية ونظافة اليد، تحققت الرؤية، وعرف أنها من قضى العمر يبحث عنها، ثم ينتهي كل شيء، وتتوقف عجلة الحياة.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: ما الهدف من الجري وراء الأحلام إن كانت نهايتها صادمة؟ هل تتحقق الأحلام لتزيدنا شقاء وعذابا وآلاما؟ أرى أن الكاتبة حبكت هذه الخاتمة الدرامية بقصدية ونيّة مبيتة؛ فالواقع وحش يحول الأحلام إلى كوابيس، بما يطفح به من فساد وسواد وخبث وسوء وشر. ومن أهم لزوميات هذا الواقع أن يطارد الأحلام ويئدها في مهدها، وإن ظهرت إلى النور فيسارع إلى طمسها، وتحويل الفرحة مأتما، والبسمة دمعة، والضحكة بكاء وعويلا.

الأحلام والواقع

الحلم نقيض الواقع، وما جاءت الأحلام إلا لتتمرد على الواقع، وتتسامى فوق قبحه، وتبقي على جذوة الأمل في نفوس البشر؛ لتمنحهم وقودا للبقاء والحياة؛ أملا في غد أفضل، ومستقبل أجمل. ومن هنا يشتعل الصراع بين الحلم والواقع في النفوس التواقة للتغيير الإيجابي والإصلاح، وإبقاء شعلة الإنسانية متقدة، مهما عتت الرياح، واكفهرت الأجواء، وثارت العواصف.

الحياة صراع لا يتوقف بين الحلم بكل تجلياته وأشكاله، والواقع بكل أنيابه ومخالبه ومغرياته، وأحيانا يختلط الحلم بالواقع، فيُشكل على المرء، ويعيش لحظات ضياع وتيه. الحلم لا يُهزم وإن خسر؛ لأنه لا يستسلم، ولا يُهادن، ولا يُساوم، ولحظة من جمال وفرح أكبر وأعظم من عمر مترع بواقع متلاطم الأهواء والمفاسد والغش والمكر. ليس مطلوبا من الحلم أن ينتصر بالضرورة؛ بل يكفي أن يكافح ويواصل المسيرة، ويستنزف قوى الواقع الفاسد، ويقف لها بالمرصاد، وربما جمال الطريق ولذة الصراع أجمل من الوصول وتحقيق الغايات كما هو مخطط لها!

لم تكن «آرام» امرأة يسعى وراءها يوسف، ولا مغنما، ولا منصبا، فقد كان يجهل ماهيتها ابتداء؛ بل كانت رمزا للسعي إلى الجمال، إلى القيم الإنسانية النبيلة، إلى الحياة النقية، إلى الإنسانية الحقة، إلى الحقيقة السامية، إلى الخير والفضيلة، فاسم «آرام» يدل على الأمن والأمان، والهدوء والراحة، والعلو والسكينة، والدليل والهداية. ولم يستسلم يوسف أو ينكص على عقبيه، على الرغم من العقبات والخيبات والصعوبات، بل واصل طريقه بقوة وعزيمة حتى حقق مبتغاه وإن في ظروف لا يُحسد عليها، لكن عزاءه أن «آرام» تشاطره القناعات والأحلام والقيم الإنسانية النبيلة، وتقف في وجه الخراب مهما كانت العاقبة؛ فتوحدت نهايتهما ومصيرهما؛ انتصارا لما يحملانه ويمثلانه.

تمثال الخلود

طغت الأجواء القاتمة على الرواية؛ تجسيدا للواقع، وتأكيدا للقارئ بعدم القفز في الفراغ، وأن تجاهل الواقع مهلكة، لكن برزت نماذج إيجابية زرعت الأمل في النفوس، مثل أحمد صديق يوسف في إيطاليا، الذي ساعده في الحصول على العمل واستضافه، وكان معه خطوة خطوة؛ يدعمه ويشد عضده، ويخفف عنه. كما أشرقت «آرام» في خاتمة الرواية التي انتصرت للحق والعدل والخير، وأبت إلا أن تثبت على موقفها على الرغم من العصابة التي تقف في مواجهتها، وبيدها الأدلة المزورة، التي تلوث الجمال، وتعيث في الأرض الفساد، لكن ما همها، وقد انتصرت لإنسانيتها، ورفضت أن تكون أداة في يد الظالم، وإن كان على حساب حياتها ووجودها.

اختتمت الرواية بموضوع ذي دلالة عميقة وإشارة بعيدة؛ في أن اختلاف النظرة وزاوية الرؤية لا يغير من الحقيقة وجوهر الأشياء. وتعدد الآراء والتفسيرات يؤكد حقيقة الاختلاف الذي يجب أن يكون دافعا للتسامح والتعاضد لا الخلاف والفرقة والصراع «ما جدوى أسئلتنا العقيمة، إن نسينا أننا خُلقنا مختلفين لنكتمل؟ ما جدوى أن نكون متشابهين؟!» فالجمال في الاختلاف، والتجدد يكمن في الاختلاف، ونتعرف إلى الآخر لأنه يختلف عنا، ولا يمكن الاتحاد إلا بين مختلفين، أما النسخ المكررة فتسبب الملل، وتعكر المزاج، وتقتل الرغبة في الحياة.

تجسدت حكاية يوسف و«آرام» في تمثالين تحت ظل شجرة؛ تخليدا للقيم الإنسانية النبيلة التي عاشا وناضلا وظُلما من أجلها؛ لتكون نبراسا ومنارة للأجيال القادمة. لكن – كما هو متوقع- اختلف الناس في رؤيتهم للتمثالين، وقد عبر طيف واسع عن رأيه وتحليله لحقيقتهما، وقد شارك في التفسير: امرأة ناضجة، وزاهد متعبد، وطبيب نفسي، وعوام من الناس، وبائع للطيور، وجندي محارب، ومؤرخ، ومتعبد، ومحلل سياسي، وشاب، ولاجئ سياسي، ولاجئ وزوجته، وقهوجي، وباحث جنائي، وشاب غريب، وتائه مجهول الهوية، وهارب، ومتيم، وقاطنو الحي. وكل ذلك اختبار وتحد للجميع، الذين اختلفت تفسيراتهم، وتعددت تحليلاتهم؛ كل حسب رؤيته وثقافته وخلفيته، وهذا طبيعي جدا، وهذا المنتظر ابتداء، لأن الاختلاف ثراء، يوسع الأفق، ويتسع ويتسامح مع الجميع، والحقيقة لا يحتكرها أحد، بل تتوزع، وتكمن الحقيقة في الرؤية الشاملة التي شارك فيها الجميع، فلكل نصيب وسهم من الحقيقة. وهذا لا ينفي أن بعض الآراء كانت متحيزة ظالمة عن قصد وتصميم؛ في محاولة منها لطمس الجمال، وتزييف الحقيقة، وخداع الناس.

مطاردة متبادلة

جرت أحداث الرواية قبل وأثناء وباء كورونا، الذي اجتاح العالم نهايات 2019، لكن لم يظهر تأثير يذكر لهذا الوباء على أحداث الرواية. أما مكانيا فقد اتسع المدى بيوسف بدءا بالأردن -على الأغلب- ومن ثم دولة عربية نفطية وإيطاليا وسويسرا والبوسنة والهرسك وانتهاء بالسعودية، وكأنه يُكمل الدائرة؛ لتضع المطاردة أوزارها بين يوسف وحلمه بــ«آرام»؛ فالحلم يطارد يوسف، ويوسف يطارد الحلم، وكانت نهاية حزينة، لكنها معبرة، وذات دلالات عميقة، مفتوحة على تفسيرات لا حصر لها.

وبعد؛ فإن «آرام» الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية عام 2022، في 195 صفحة، رواية تميزت بلغتها الجميلة، وشاعريتها المتدفقة، وسردها السلس، وارتكازها على المونولوج، في تأكيد لصراع الذات الداخلي والخارجي، وحيرتها، وغربتها، وقلقها، وتشتتها، ومعاناتها، وصدمتها، وأحلامها، وسعيها للتغيير نحو الأفضل. وقد اعتمدت الرواية على الراوي العليم، وكان الأنسب أن توظف تقنية تعدد الأصوات؛ إذ لا وجود لراوٍ عليم إلا في الخيال. كما أن الرواية جاءت كتلة واحدة دون تقسيم، وسارت أحداثها بشكل تصاعدي كلاسيكي، وهذا الشكل لا يتوافق ومحتوى الرواية وغايتها.

كاتب أردني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي