الخوف في الزمن السائل

2023-07-26

سعدون يخلف

ينتقد زيغمونت باومان الفيلسوف البولندي الشهير (1925- 2017) عالم ما بعد الحداثة، من خلال مشروعه الفكري العميق والكثيف، واصفاً إياه بـ«السيولة» بمعنى آخر غياب اليقين، متطرقاً، في الوقت ذاته، إلى العديد من المفاهيم، التي قد تضيء، بصورة أو بأخرى، عالم الحياة في الزمن الحديث، ولعل من أبرز تلك المفاهيم، التي خصّها بالبحث والتحليل والتفكيك: الحداثة، الثقافة، الشر، الزمان، الحب، الحياة، المراقبة، دون أن ننسى بحثه المتميز عن الخوف.

لقد صار من الصعوبة بمكان في زمن الحداثة السائلة تحديد هذه المفاهيم وتعريفها بدقة، نظراً إلى غياب الضوابط والقواعد، التي قد تساعد في إزالة الغموض، وفي كشف الإبهام فيها، وذلك بسبب تخلي العالم الجديد عن المطلق لصالح النسبي، وتفريطه في كل ما يأتي من السماء (سلطان الدين أو المقدس) لأجل الأخذ من كل ما هو أرضي (سلطان العقل أو المدنس) طلباً للتحرر من «الماضي المستبد» ولا يمكن تحقيق هذه الغاية، بحسب باومان: «إلا بإذابة المواد الصلبة، أي بتذويب كل ما يتشبث بالبقاء على مرِّ الزمان، ويتجاهل مروره أو يسلم من تدفقه وجريانه». كان الهدف من زعزعة المقدس، وإنزاله من العرش، تقوية سلطان العقل. وكان الهدف من تقوية سلطان العقل، السعي وراء الكمال. وكان الهدف من السعي وراء الكمال، التحرر من التعب والعمل الشاق والخوف.

مع مرور الوقت، بدأ سلطان العقل يتزعزع، وبدلا من تحقيق الكمال والتمام، ساد التغيير والتبديل، وبدلا من تحقيق اليقين، تسيّد اللايقين، كما قادت الصلابة، في نهاية المطاف، إلى السيولة، وتزايدت المخاوف والمخاطر، وتنوعت أساليب القهر، يشبه باومان العيش في هذه المرحلة بـ«السير في حقل الألغام» فالكل مرعوب، خائف، ومتوجس، ينتظر حدوث «انفجار في أي لحظة، وفي أي مكان، لكن أحداً لا يعلم زمن وقوع هذه اللحظة، ولا مكان الانفجار» أي أن كل آمال الحداثة ذهبت أدراج الرياح، وكل وعودها للإنسان لم تتحقق، وعدته بأنها سترسو به في مرافئ اليقين، وستنقله إلى عالم لا شقاء فيه ولا تعب، وستحرره من الخوف والقلق، وتقذفه في عالم الأمان والطمأنينة، غير أنّ العكس هو الذي حصل، فقد تركته فريسة للايقين، وجعلته يكد ويلهث وراء كل جديد، وصار محاطاً بالخوف من كل الجهات، خوفٌ يعاد تدويره وإنتاجه بشكل غير مسبوق.

الخوف ما هو؟

عالم الخوف، إذن، هو السمة البارزة في هذا العصر، أو على حد وصف باومان «الخوف السائل» وهو عنوان كتاب من سلسلة السوائل، صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر (2017) وإن كان لا يقدم فيه تعريفاً محدداً للخوف، غير أنه يحاول أن يمسك بتلابيبه، ويقرّب معناه، إذ يقول: «إن الخوف هو الاسم الذي نسمي به حالة اللايقين التي نعيشها، وهو الاسم الذي نسمي به جهلنا بالخطر، وبما يجب فعله لمنع الخطر، وبما يمكن فعله لمنعه وبما لا يمكن فعله، أو بما يمكن فعله لصده إذا لم يكن لنا طاقة تمنعه» ويشير إلى أن الخوف يتصف بالديمومة في كل مكان، ما يجعل هذا الزمن هو زمن الخوف بامتياز: «إن الخوف دائم في كل مكان، وأن الزمن الذي نعيشه هو زمن الخوف مرّة أخرى». وبما أن الخوف يتولّد من المعاناة، التي تهدد الإنسان جرّاء سيادة الخوف السائل النابع، وفقاً لباومان، من ثلاثة اتجاهات: من الجسد الذي كُتب عليه الموت والفناء، بل والذي لا يمكنه أن يعمل دون الألم والقلق، باعتبارهما إشارتي تحذير، ومن العالم الخارجي الذي يمكن أن يصبَّ جام غضبه عليه بقوى التدمير الساحقة، ومن علاقاته الاجتماعية، ولعل المعاناة التي تأتي من هذه العلاقات هي أكثرها إيلاماً من غيرها.

مِمَ يخاف الإنسان؟

إن الإنسان مجبول على الخوف، وهو صفة يشترك فيها مع الحيوان، غير أن خوف الإنسان يختلف عن خوف الحيوان، كون خوفه يعاد تدويره اجتماعياً وثقافياً أو هو خوف مشتق بمعنى أنه «أثر ناتج عن التعرض للخطر، إنه شعور بفقدان الأمان» هذا الأثر يبقى على الدوام قائماً يتحكم في سلوك الناس.

الخوف من الموت

يخاف الإنسان من الموت «الخوف الأول» لأن الموت يقوم بإلغاء المعلوم، فضلا عن أنه تجسيدٌ للمجهول، يقول باومان: «لكن الموت يلغي كل شيء معلوم، فالموت تجسدٌ (للمجهول) وهو بين كل (المجهولات) الأخرى، يعدّ المجهول الوحيد الذي لا سبيل إلى معرفته حقاً وصدقاً». إن الموت مجهول في موعده، مجهول في طبيعته، فلا أحد اختبر تجربته، حتى يروي هذه التجربة، كما أن الإنسان يجهل مصيره بعد الموت، سعيد أم شقي؟ في جنة النعيم أم في النار؟ كل هذا يولّد القلق والخوف في الإنسان، بالإضافة إلى أنّ وعي الإنسان بحتمية الموت، يجعل شعوره بالخوف أكبر، فالإنسان حسب زيغمونت باومان: «يدرك الموت لأنه إنسان، وهو إنسان لأنه موت يتحقق بمرور الزمن».و لأجل مقاومة خوف الموت، قدمت الديانات السماوية وصفة للإنسان، إذ ربطت مصيره بعد الحياة الدنيا الفانية بما يقدمه من أعمال، بحيث ستكون سبباً في دخوله النعيم، أو سقوطه في دركات الجحيم، إدراك الإنسان بأن نهاية الحياة مؤكدة (الموت) وأن الدنيا ما هي إلا محطة في رحلة الإنسان إلى عالم الحياة الأبدية الخالدة، يخفف من نسبة مخاوفه، ويقلل من حجم قلقه. في المقابل، حاول المجتمع الاستهلاكي الحديث التخفيف من وطأة الخوف من الموت، بإلغاء العالم الآخر، وجعل الحياة هنا فقط، وذلك بقطع أي جسر أو أي رابط بين الحياة الفانية والحياة الأبدية، ولا يتأتى ذلك إلا بتهميش المخاوف المرتبطة بحتمية الموت، عبر نزع قيمة أي شيء قد يتجاوز الحياة الفردية، من خلال إنكار الخلود من جذوره، ونقل الأهمية التي كانت مخصصة للحياة الأخروية الدائمة لتزرعها في اللحظة الراهنة الزائلة.

الخوف والشر

إن العلاقة بين الشر والخوف متلازمة، وهما، على حد وصف باومان، «قد يكونان اسمين مختلفين لتجربة واحدة» يتولّد الأول من الخارج، بينما الثاني، مصدره من الداخل، إن الشر، والحال هذه، لغزٌ محيرٌ في حاجة إلى تفكيك وضبط، نلجأ إليه «عندما لا نستطيع الإحالة على القاعدة التي جرى كسرها أو تجاهلها لوقوع فعل نبحث له عن اسم مناسب». تتجلى الشرور في الظواهر الطبيعية، التي لا يمكن للإنسان إيقافها أو مقاومتها، كالكوارث الطبيعية، أو في الشرور التي يكون مصدرها الإنسان نفسه، من قبيل تآكل الفطرة الأخلاقية، وخفوت تأنيب الضمير، وانعدام الرحمة، وكراهية وإيذاء البشر، إزاء هذا الوضع الإنساني البائس، بدأ شعورٌ بالعجز ينمو بأن البشر لا طاقة لهم لأجل الحدِّ من الشر أو قهره؛ في هذا الصدد يقرر باومان هذه النتيجة قائلا: «الخوف الذي نخشاه بحق، ولا طاقة لنا به قط، هو الخوف من الشعور بأن الشر لا يقهر». في هذا العصر يزداد الهلع، وتتنوع مصادر التهديد، بسبب حيازة الأسلحة النووية، وامتلاك الصواريخ المتطورة القادرة على الوصول إلى كل شبر من العالم، ما يجعل إمكانية إدارته أو التحكم فيه أو اجتناب حدوث الكارثة، أمراً بعيد المنال، ولعل السبب في ذلك يعود، بحسب باومان، إلى أنّ الحضارة الحديثة تكره كل ما يقيدها، أو يزرع في طريقها الحدود والقيود، التي من شأنها أن تحد من حركيتها، لأنها حضارة لا تستطيع أن تستمر، ولا أن تحافظ على عظمتها وروعتها إلا بوجود هذه السمات. مضافاً إلى ذلك أن هذه الحضارة لا تولي أهمية لحل المشكلات أو القضاء عليها، لأنها مهمومة، في الأساس، «بحل المشكلات المتوالية، لاسيما المشكلات التي يجلبها حل المشكلات» بالتالي، فهي حضارة تتغذى على إنتاج المشكلات واستمرارها، إذ تقذف في روحها الديمومة، في المقابل، لا تملك الإرادة أو الرغبة في حل معضلات المستقبل أو بتعبير باومان: «ليس لها الرغبة الداخلية لتدبر الظلام الواقع في النهاية البعيدة للنفق».

أهوال العولمة

يصف زيغمونت باومان العولمة بأنها سلبية وفاسدة، وهي أبعد من أن تكون إيجابية وصالحة، يتحقق بفضلها الأمن والسلام والعدالة، وبدلا من تحقيق هذه الوعود، أنتجت أهوالا ومخاطر، لأنها عولمةٌ قائمةٌ على احتكار القوي، وتمجيد القوة، وبناء مجتمعات قائمة على الفوارق (أغنياء وفقراء) أما بخصوص دعواها بجعل العالم قرية صغيرة، فهي أكذوبة، كانت سبباً أساسياً في زيادة الظلم، وفي نشوب الصراع والعنف. لقد أفرزت العولمة السلبية عالمين: عالم الأغنياء «النخبة التي تعتلي القمم بحرية الانتقال إلى عوالم متخيلة» وعالم الفقراء حيث «مستنقع الجريمة والفوضى». في الحقيقة أن العولمة حققت أهدافها المرجوة في التدمير والدمار، وفي الكراهية والانتقام، وفي نشر العنف والحروب، وفي تنويع وسائل المراقبة، فضلا عن أنها قوّضت سلطة الدولة، حيث أخلّت الدولة بأحد بنود العقد المبرم مع الأفراد، الأمن مقابل التنازل عن الحرية، وبهذا صار أفرادها بلا حارس يحميهم من المخاطر والمخاوف، وصارت الدولة «خادمة للاقتصاد العولمي» وبالتالي، عاجزة ومريضة عندما «أخذت دولة السلامة الشخصية تحل محل الدولة الاجتماعية المريضة» ومن أهم سمات هذه الدولة أنها تتغذى على «الخوف واللايقين». في الختام، لم تستطع الحداثة في الزمن السائل الوفاء بوعودها في التخفيف من الخوف، بل أطلقت عنانه أكثر، إذ جعلت الجميع مرضى بهوس تحقيق الأمان، يعملون بكل جد وكد من أجل اقتناء وسائل الحماية، لكن هذا الهوس بالأمان، وبتوفير كل جديد معروض، لن يطرد شبح الخوف، إلا بعد أن «نعثر على تلك الأدوات (أو لنكن أكثر دقّة، حتى نُشَكِّل تلك الأدوات)» يستنتج باومان.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي