محمد برادة: الرواية أداة معرفية ومتعة وتفكير

2023-07-24

عاطف محمد عبد المجيد

إذا سلّمنا بأن الثقافة العربية تعيش زمن الرواية دون أن يعني ذلك إلغاء حضور بقية الأجناس التعبيرية، فإن علينا في الآن نفسه أن نحذر الانقياد إلى تصور تمجيدي إيجابي يغفل التفاصيل والتحولات المأزقية التي ترافق صعود الرواية والازدياد النسبي لقرائها واختلاف مقاييس التقييم والتمييز. هذا ما يقوله الأديب والناقد المغربي محمد برادة في كتابه «الرواية العربية ورهان التجديد» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

شاشة مضببة

يفتتح برادة كتابه هذا قائلاً: لا بأس من التذكير بأننا لا نتوفر في الحقل الأكاديمي والثقافي على معاهد، أو تخصصات تهتم بسوسيولوجيا الأدب والفن، خاصة الجوانب المتصلة بالإنتاج والاستهلاك وتقديم إحصائيات عن عدد القراء والمتلقين والموضوعات التي تحظى بالرواج وتثير الجدال، وغياب مثل هذه الدراسات الضرورية يضع الباحث والمحلل أمام شاشة مضببة تقوده إلى التخمين والافتراض، بدلاً من الاستعانة بأرقام تحدد حجم السوق والإقبال ومدى التأثير والانتشار. يسعى برادة في كتابه هذا، الذي يضم بين جلدتيه عددا من القضايا التي تتصل بالفن الروائي العربي، إلى تمييز وتوضيح العلاقة بين الرواية والكتابة، وبالتالي الفرق بين رواية استنساخية نمطية، وأخرى حريصة على استيحاء النبض القريب من الصنع الروائي الكوني المُعرض عن النموذج الاستهلاكي الترفيهي، والمتطلع إلى أن يجعل من الرواية أداة معرفية ومتعة وتفكير في الحياة والكون وأسرار النفس، كذلك يسعى برادة إلى التمييز بين نمطين من الرواية: أحدهما يستخدم مكونات السرد والتخييل لبلوغ إمتاع القارئ من أقرب سبيل وبأقل جهد في البناء والتفكير، وثانيهما يتوسل بمقومات الرواية لاحتواء مظاهر وأبعاد لا تلتقطها بقية خطابات الثقافة، وهو يحاول أن يحلل هذا استناداً إلى مصطلح الكتابة، الذي يقتضي إعادة تحليل وتحديد، ويورد ما قالته باسكال كازانوفا في كتابها «الجمهورية العالمية للآداب»: لن تتبدى الأعمال الأدبية في تفردها إلا انطلاقاً من مجموع البنية التي أتاحت انبثاقها، وكل كتاب يُكتب في العالم ويُعتبر أدبياً سيكون جزءاً ضئيلاً من التركيبة الضخمة لمجموع الأدب العالمي.

الانفجار الروائي

ثم يستطرد برادة قائلاً، إننا عندما نتأمل الانفجار الروائي العربي ما بين 1960 و1980 نجد أن السمة المميزة هي التجريب لطرائق سردية وكتابات متباينة، غالباً ما تحيلنا على نظائرها في سجل الرواية العالمية مع اختلاف في التمثّل ودرجة الاستيعاب وملاءمة الشكل للمضمون، ومتحدثاً عن التجربة الروائية العربية الحديثة يقول برادة: لا نغفل خصوصية الشروط التي رافقت نشأتها وصعوبة السياق المواكب لنموها وتطورها، خاصة ما يتصل بانتشار الأمية وعبء الرقابة ووطأة المجتمع العربي البطريركي.

أما عن التجديد الروائي فيقول برادة: ليس من السهل تحديد المقصود بالرواية الجديدة لأن عناصر التجدد والابتداع لا تخضع لعامل التعاقب الزمني.. إذ نجد كُتاباً من أجيال سابقة يوالون الابتكار والتجريب، كما أنه يصعب تحديد الجدة من حيث التنسيب والإطلاق، من حيث المقاييس المحلية والمقاييس الكونية، ثم يورد هنا عدة تساؤلات لجان جينيه يقول فيها: لا أفهم جيداً ما يُدعى في الفن بـ«مجدد»..هل يعني ذلك أن عملاً فنياً يتحتم أن تفهمه الأجيال المقبلة؟ لكن لماذا؟ وعلام سيدل ذلك؟ هل يعني أن تلك الأجيال ستستطيع أن تستعمله؟ في أي شيء؟ وهنا يطرح جينيه مسألة مهمة وهي أن قيمة العمل الفني إنما تتأكد من خلال صمودها أمام تعاقب الأزمنة واحتكامها إلى الموتى الذين يوجدون على مسافة كافية للتمييز والتقييم، دون تأثر بالسياق الظرفي أو المقياس النفعي المتعجل.

تناسل الهزائم

بعد ذلك يخلص برادة إلى أن الرواية العربية غدت بعد هزيمة 1967 وسيلة فاعلة في استكناه مخبوءات الظلال وصوغ لغة نثرية تكشف وتعرّي، تستبطن ولا تقدس، تصرخ وتفضح وتبوح وتحاور الظاهرات المقلقة المتناسلة مقدار تناسل الهزائم. وبعد قراءة في عدة روايات لكتاب مصريين مثل «فاصل للدهشة» لمحمد الفخراني، «وقوف متكرر» لمحمد صلاح العزب، «الرسائل» لمصطفى ذكري، «تمارين الورد» لهناء عطية، «أن تكون عباس العبد» لأحمد العايدي، «ألعاب الهوى» لوحيد الطويلة، إضافة إلى روايات صنع الله إبراهيم، جمال الغيطاني، إبراهيم عبد المجيد وغيرهم، يقول برادة: عند الجيل الجديد من كتاب الرواية في مصر، نجد أن تشظي الشكل غالباً ما يقترن بالحد الأدنى في صوغ النص «مينماليزم» الذي يتجلى في استعمال لغة مقتصدة وتجنب الوصف المطنب، وتوظيف التلميح والصمت ودعوة المتلقي ضمنياً إلى إعادة تخيل النص، وبعد سرد عدد من الروايات العربية لعبده جبير، حنان الشيخ، الطيب صالح، محمد الأشعري، محمد أمنصور، هالة كوثراني وغيرهم، يقول برادة: من هذه الزاوية نجد أن الرواية العربية خلال ما ينيف على مئة سنة قد اضطلعت بدور كبير في تهجين اللغة تهجيناً مخصباً وطد علائقها بالنثرية الطامحة إلى ملاحقة التحولات المتسارعة على إيقاع التحديث وتحولات المشهد العمراني والتصنيفات الطبقية والاصطفافات الأيديولوجية. ثم يذكر برادة أن هناك خاصية عامة تسم النصوص الروائية الجديدة وهي ما يطلق عليه تذويب الكتابة أي حرص الروائي على إضفاء سمات ذاتية على كتابته، من خلال ربط النص بالحياة والتجربة الشخصيتيْن، وجعل صوت الذات الكاتبة حاضراً بين الأصوات الروائية لتمييز محتوى النص عن الخطابات الأخرى التي تعطي الأسبقية للقيم والأفكار الغيرية.

قضايا وتجارب

ثم ينتقل برادة إلى الحديث عن التقييم الأدبي والفني، الذي عموماً ما يكتسي طابعاً إشكالياً عويصاً لأنه منذ عصر الحداثة ثم ما بعدها، لم يعد ينحصر في الاعتماد على مقاييس فنية ومعرفية ـ أخلاقية تستهدي بالمأثور من النصوص والروائع، وإنما أضحى التقييم متصلاً بالفلسفة والاستاطيقا والتاريخ والأنثروبولوجيا وعلم النفس لأن الإبداع في خصوصية وشمولية يلامس قضايا وتجارب ملتصقة بحياة الإنسان في تجلياتها المختلفة. وذاكراً بعض الآراء التي وردت في كتاب «الرواية لأجل أي شيء؟» الذي أصدرته مجلة «ورشة الرواية» يقول برادة إن هناك ثلاثة تصورات تتقاطع أو تتكامل يمكن تلخيصها على هذا النحو: الرواية هي حنين نوستالجي إلى الاكتمال، فهي بمسيرتها وتحولاتها لم تستقر قط عند شكل معين، بل تظل منبعثة من رمادها بلبوسات وتشكيلات متعددة، والرواية أيضاً طاقة تسعفنا على الاستمرار في الحياة، لأنها تضيء مسرح الظلام المخيف الذي نتخبط داخله. هى الطوبى المتبقية لنا بعد أن انهارت الأحلام والأيديولوجيات، إنها بمثابة دين لأنها تَعِدنا بحياة خالدة تعلو على ما هو فان، والرواية هي ضد إغراءات التسلية الخالصة والبلادة المنتصرة للمعرفة السطحية أو لتخييل ذاتي لا ينفتح على الكونيّ وعلى الإحساس بثقل التاريخ والذاكرة، وعلى الرغم من كل هذا لا يعتبر الروائي والناقد بيير لوبّاب الرواية جنساً أدبياً، وإنما شكل للخطاب لا يمكن أن نُخضعه لقراءة داروينية تسجل تطور الأشكال والمضامين.

ويختتم برادة كتابه هذا قائلاً: إن الروائي المطالب دوماً بالمغامرة والتجديد لا يستطيع أن ينسى أن نصوصه بحث عن معنى التاريخ أو لا معناه وعن تحولات الفرد وسط سديم يؤججه العنف وطغيان الأقوياء، وفي الآن نفسه تعتبر نصوصه تشخيصاً لهذا التاريخ من خلال تجربة الروائي ورؤيته إلى الحياة.

كاتب مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي