في ديوانها «ليس إلايَ معي»: سناء هلال شاعرة المسافات البعيدة

2023-07-23

جبر الشوفي

شيء من فوضى الشباب ومن شغبه الجميل واختراقاته، بغية تأكيد ذاته عبر الوجود الرمزي في اللحظة الشعرية وضدها الجدلي. والشاعرة حاضرة هنا.. فطرة مبادهة جريئة، تندفع، وتدفع بما يتصادى في خواطرها وخطرات وجدانها وهواجسها في ميتافيزيقيا الشعر، وما يعزز ملكة اكتشاف الذات لذاتها، وفي الآخر الضروري لمعرفتها. إنها هنا، حيث يتطلع الشعراء المقيمون في بؤرة أقانيم الحياة الناقصة إلى أقصى أماني الاكتمال والخلود، فيتصلون بفلسفة الحياة وحبلها السري الكوني، عبر التأمل الذاتي وتلمس ما تلهج به الروح وما يعتمل في المشاعر والأحاسيس.

وهي هنا إذ تبدّل عنوانها من «ليس إلاكَ معي» إلى «ليس إلايَ معي» لتؤكد اغتراب الذات الشاعرة واستقلالها عبر السعي للتحرر من الوجود الشكلاني للآخر، ولتحريضه لاكتشاف كنه هذا الإقصاء في «ليس إلايَ معي» باعتباره ليس التفافاً نرجسياً ولا غرائزياً نسوياً، بل إنسانياً مطلقاً خارج تصنيفاته الجندرية، وبحضورها الرمزي اليوتيبي في اللحظة العالقة بين أفق التخييل والعاطفة، وحيث امتلكت الحرية والجرأة للإلقاء بمنظومة الشعر الموزون والمقفى وما لم يزل عالقاً في أذياله ووسوسة قوافيه، وتجاوزت قصيدة النثر التي دشن عهدها أدونيس بترجمته لكتاب الفرنسية سوزان برنار ( قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا ) عام 1958 إلى كتابة النص الشعري الحداثي، وفي هذه البؤرة الشعرية المركزية، انخرطت سناء في حوارها مع نصّها، بعد أن فكفكت علائقَه اللغوية التّقليدية وطوّعت عباراته، لسياقاتها لتظهر في نصّها ببعديه الثّقافي والقيمي، وباعتباره إضافة لأقنوم التجربة الحرّة المستقلة، تصويراً وتعبيراً وتخاطراً حرّاً.

وعلى خطا الحوار الريادي مع نصها، تجاوزت الموضوع إلى التجربة والقصيدة إلى النص الشعري، وفي سبيله (شَعرنت) العبارة النثرية وأخرجتها من حياديتها وتعفّفها، لتتكامل في نص شعري ما بعد حداثي، يتواءم مع سياقاته الفنية والتعبيرية، ويفضي إلى رؤيتها الاستشرافية وحوارها اليوتوبي بين الحلم والواقع والحب الإنساني، وحيث وضعته وتموضعت به مشبعاً بارتدادات الليبدو في حوار الأنا النرجسي والأنا الأعلى، وعبر المكاشفة بين صورة الحب المشتهاة وواقع استحالته، وفق ما أشارت إليه الأفعال الطلبية: «أحبوّا أسفل سماء تطلعاتكم/ وأعلى قاع أرواحكم/ لتبقوا هناك في الفراغ/ على شفا جاذبية من تحبون» وحيث الحب مصباح الذات وتوهجها وهو الأسر المعنوي المفضي إلى نضح الحرية وأنسنتها: «يأسرنا الحب/ لا يكسرنا/ يكسرنا اللاحب.. يشعل من أصابعه شموعاً/ يطفح من عينيه نبيذا/ ومن كفيه خبزاً كرمى قلوبنا الظامئة.. كفى بالحبّ/ سياجاً شاهقاً في وجه قراصنة الحياة.

وحين يعود الآخر المُقصى من العنوان إلى الظهور في نصها، يعود بصورة الحب المطلق المنطوي على جدلية (الأنا) و(الهو) وفيه تتجلى الحرية الفردية وتتجسد في أبعادها الوجودية، كثيمة لأسئلة الحياة المناكدة والعالقة، في التناقص والتآكل منذ اللحظة التي نتوهمه فيها مكتملاً، أو حين نؤبد لحظته السّاكنة بينما هو في الواقع المتحرك لو اكتمل لَفَنِي، ومات المثل والنظير الذي يسعى إليه الإبداع في الأدب والفنون الجميلة.

هو ذا مناخ شاعري موات لتحسس نبض المرأة الشاعرة وتوقها وتوهجها، حين يغدو المحبوب هو الحبّ المجرد ذاته بمتاهاته الطوباوية، لا بكيانه المدرك، ولا بصورته اللا متناهية في أقصى انفعال القلب وتفجرات الوجدان: «أحبوّا أسفل سماء تطلعاّتكم وأعلى قاع أرواحكم، لتبقوا هناك في الفراغ على شفا جاذبية من تحبون» إنها حقيقته المرة الكاوية المنطوية على جدلية الحب وفوضاه وعذاباته، في قولها: «قتّروا بالحب ما استطعتم/ اقبضوا عليه متلبّساً باستحواذكم». وسناء هنا تقارب مناخات الفيلسوف شو في أسلوبه المُرسل الماثل في استقلاليّتها وانعتاقها من التّراتب الهرميّ لمجتمع الذّكورة (الأبوي) وكنظيرٍ لقوّة حضورها في نصّها، (مرآة ذاتها) وحيث يتّخذ الشّعر سمتاً لا منبريّا، يميل به إلى التأمّل الذّاتيّ والقراءة الآخذة بجوهر الفكر والعاطفة. وعبر الرومانسية الحارة المتدفقة في الديوان، يحضر الحب، كمتخيل شعري ذاتي وكحضور طيفي للآخر، معبراً عن قلق وجودي، ينطوي على ثيمة الأسئلة المحيرة الكبرى: «لدي من الحيرة ما يكفي اكتمال الخيبة/ وانطفاء الألق..» وحيث الكتابة إفراغ لضغط مؤرق: «أكتب إليك… لأفرغ ذاكرتي من حفيف تجلياتك/ تصير الأوراق سفيرة هذياني/ ليغدو حبري كلمات تطير/ ومجازات تصير عصافير/ تحط على شجرة تظللك. وعلى هدى المتصوفين تصبح ظلمة الغياب بذكرى الحبيب وبالشوق إليه: وأنك وحدك من تضيء/ في ظلمتك الباهرة.. صيرني الشوق مرجلاً/ وتصاعد وهجك في الغياب» وحيث، يتوالى إيقاع هذه النجوى حاراً متهدجاً، ينجلي فيه التعبير المذخّر بجوى النفس ومرارة الفقد، عبر مشهد درامي بأبعاد تراجيدية محاط بالضجيج والموسيقى الصاخبة «لأبارك خروجَكَ العلنيّ كان عليَّ أن أقتلَك.. أن أجعلَ ليلةَ محاكمتِكَ ليلةً عامرةً بالضجيجِ والموسيقى الصاخبةِ/ وأصحو لكنّني مذْ قتلتُكَ.. ظلَّ قلبي يسيلُ/ يكتبُ بالأحمر.. بكلِّ أبجديّاتِ الوجد.. أُحبُّك» وفي هذه الإحالة الرمزية إلى القتل، تذهب بطلة هذه التراجيديا إلى محاججة الحب ببراءة اللحظة الشعرية، وتحاكم غيباً وقدراً لا سبيل إلى صده: «أيها القادمُ من عوالمَ قَصِيّةٍ/ كيفَ أفكُّ لُحمةَ قلبين/ يسجدانِ تحت لواءِ السكينةِ؟ أحتاجُ زمناً بلا تقاويمَ.. أرضاً خلاء/ بحراً مالحاً يشذِّبُ جَرحيَ/ كان عليَّ الشفاءُ منكَ/ كجاحدٍ خارجٍ عن نداءاتِ الحبّ والآلهة/ كعاصٍ وهبَ روحَه للشطآنِ والسفنِ الغاديةِ/ وعِربيدٍ يعاقرُ دِنانَهُ الوَلهى / يتنحَّى متغافلاً عمّا يبوحُ بهِ الخمرُ للنُدَماء.

وإذا كان الشعر العربي المعاصر، لم يعد مناوراً سياسياً ولا ساعياً لاحتلاله موقعاً ريادياً في واقع منغلق غير شعري، لكن الشاعر لم ولن يستطيع الإفلات من تشظي أناه وتغريبته في مجمل قضاياه المصيرية، وارتداداتها النفسية المهولة. وكذا فعلت سناء هلال في محاكاتها للمأساة السورية عبر الكنايات والاستعارات والتشابيه، بتصويرها لمدى البؤس والاغتراب تحت عنوان (أنكرنا الماء): «غرباءُ.. بصُرّةِ بؤسٍ/ نسيرُ إلى اللا مكان/ لم يعدْ لنا إلا جعبةُ نبض وقلبٌ ضرير/ تعثَّرتْ خُطانا بوطنٍ جائعٍ يشربُ نخبَ خلودِه من دمِ الأساطير». وعبر الانشغال العميق بوطن معتقل وبما يترجم حالة خروج السوريين إلى اللامعقول في نشيد العبث والأسى: «ألفنا الغريبَ ورقصْنا رقصةَ الصوفـيّ/ على جسدِ الذبيح/ وفي ما يشبه مرثية للوطن المزعزع وفي سبيل إنهاضه وشفائه بالحب، تقول:

تنكرنا لوشوشات الحمام على المآذن:

حي على الطير المسافر في شجر الله..

حي على الحب في شعائر العاشقين..

حي على الوطن المهيض..

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي