السرد التعويضي في رواية «خانة الشواذي»

2023-07-22

علي حسن الفواز

إذ كان المكان في العمل الروائي هو الهيكل الذي يؤطّر الحدث، فإن لعبة السرد تجعله المجال الحيوي لتمثيل الصراع والتحوّل الذي تنخرط فيه الشخصيات والوقائع، وبهذا التوصيف المُفارق يكون هو الحيّز والمسافة والامتداد، والمجال، مثلما هو المجاز الحاوي والمُحرِّض على فاعلية التخيّل.

تظل هذه التوصيفات مخاتلة، فبقدر ما تُعطي للمكان السردي بُعدا وظائفيا، فإنها تُسهم في توجيه الفواعل السردية الأخرى، وفي صياغة هوية هذا المكان، بوصفه جزءا من الهوية السردية للنص، على مستوى رمزيته، وسيميائيته، أو على مستوى أن يكون فضاء لمجرى السرد، وفي ترسيم حركة الشخصيات داخل مجاله التمثيلي، ليعبّروا من خلاله عن علاقتهم، أو انخراطهم به، أو من خلال الإنوجاد داخل تشابكات بنيته المُتخيّلة، وداخل هويته بوصفها « الموقع المنشود لتفاعل السرد والخيال. وبهذا المعنى، تتعين الهوية السردية بوصفها ذلك الضرب من الهوية الذي يكتسبه الإنسان من خلال وساطة الوظيفة السردية (بول ريكور/ الزمان والسرد/ ترجمة سعيد الغانمي).

الوظيفة السردية تتجاوز الواقع، لتستبطن المخفي، ولتعرّي الواقع المعطوب، إذ تصنع السلطة وجودها الاستلابي عبر صناعتها للمكان المُضاد/ المكان الدستوبي، حيث – السجن- المنفى، أو العزل الوظيفي والسياسي، مثلما تتموضع فيه الشخصيات، بوصفهم ضحاياه المطرودين، الذين يعيشون أزمة هوياتهم المعطوبة، وبما يجعل من هذا المكان تمظهرا لوجودهم القلق، أو التعويضي، ولتمثيل ما هو مخفٍ في الصراعات السياسية التي عاشها العراق، والتي جعلت من تلك الشخصيات أكثر تمثيلا للعزل في المكان/ النفي، والضياع في متاهته/ المسافة/ الفقد الهوياتي.

في رواية «خانة الشواذي» للروائي عبد الخالق الركابي، الصادرة عن المؤسسة العربية للنشر/ بيروت 2019 تتبدى أحداثها وكأنها تتنامى داخل سلسلة من الصراعات الداخلية والخارجية، فتعيش «فتنة المكان» عبر تمركز شخصياتها داخل «مسرحه» الذي يخضع لأسطرة السرد، ولتوصيفات المكان الدوستوبي، إذ يحفل هذا المكان بثنائيات صراعية، تبدأ من الصراع الوجودي، وصولا إلى الصراع الحسي/ الجنسي، ولا تنتهي عند الصراع الذي يكشف عن كونهم كائنات خاوية ومُستلَبة، حيث يوضعون مُقيّدين بالكراسي/ الخانات الخلفية لسيارات النقل، وهو ما تَمثّل في سيميائية عنوان الرواية، إذ تكون الـ»خانة» مجالا لتوصيف هوية المكان السردي، ولحمولته الرمزية، ودلالته في السيكولوجيا العراقية، حيث التعبير عن «الدونية» التي تعيشها الشخصيات المنفية، أو التي تعيش تداعياتها الشخصيات الثانوية في الرواية، وهي تؤدي وظائف «دونية» وتصطرع حول علاقتها بهؤلاء المنفيين، وبالصراعات الحادثة داخل «المكان السردي» الذي تتمثل متاهته الطريق الواقعي لحركة السيارات الواصلة بين بغداد- الكوت- بدرة.

بدرة المدينة الحدودية تحولت إلى «سجن مفتوح» لاستقبال المنبوذين من السلطة، فيجدون في عزلتهم إحساساً فاجعاً بأنهم كائنات غريبة، وأن وسائط نقلهم في السيارات القديمة تتحول هي الأخرى إلى ما يشبه وسائط النقل إلى الجحيم كما في الأساطير، لكن ما يعيشه «سائقو» هذه السيارات يكشف عن جحيم داخلي، يتفجّر من خلال الصراع الوجودي بينهم، كاشفا عن التشوهات العميقة التي تعكس أزمة الكائن في المكان المعزول.

وحدات المكان في بدرة، أو في «خانة الشواذي» تتحول إلى وحدات صراعية، تتكشف عنها الأزمات التي تعيشها شخصيات الرواية، والتي تمتد عبر الزمن التاريخي، والزمن السردي، والزمن النفسي، وكأن بؤرية هذا المكان تأخذ خصوصيتها من خلال تمثيلها لوجوه ذلك الصراع المتعددة، عبر تشوهات وجودها، أو عبر غيرتها وحساسيتها، أو عبر علاقتها مع الآخر الداخلي والخارجي.

لعبة الأجيال قد تبدو واضحة في الرواية، لكنها ليست بعيدة عن الذاكرة، ولا عن علاقة تاريخ المدينة بذلك الآخر، وبسيرة شخصياتها التاريخية، المأزومة والمنفية، فالرواية تبدأ من محنة «أم بشير» وهي تفقد ولدها في حوادث «السفربرلك» العثماني، إذ اقتيد إلى الحرب، دون أن تعرف مصيره، وليعود بعد سنوات طويلة مع امرأة أرمنية حسناء تدعى كرستينا، تزوجها بعد أن أنقذها من مجزرة الأرمن عام 1914، ولتنجب له ولدهما «نادر» هذه المفارقة في حضور الآخر، تقابلها مفارقة أخرى يُمثلها حضور «ملاك عيسى» الشخصية اليسارية المنفية إلى سجن «بدرة» بعد أن فقدت حبيبها المقتول في التظاهرات المناهضة لمعاهدة بورتسموث 1948 فتجد نفسها في السجن، وبعدها إلى النفي في تلك المدينة الحدودية. هذا الحضور الثنائي، هو عنصر وظيفي للمفارقة أو للصراع بتوصيف بروب، فيؤدي وظائف نفسية، وصراعية لها فعلها في تخصيب الأحداث، وفي إيجاد مساحة للمفارقة، التي يشتبك فيها الصراع السياسي مع أقنعة الصراع الجنسي، ومع صراع الأنوات المأزومة، التي تعيش عُقد التملّك والفقدان.

الشخصيات وعقدة التحوّل

حصول ناظم وهو أحد أبناء بدرة على ثقة «الضابط الإنكليزي، جعله يُهديه سيارة قديمة أعيد تأهيلها، لتكون أداته في نقل السجناء المنفيين من بغداد إلى بدرة، ما دفعه إلى دعوة صديقه بشير للعمل معه على الخط، لأن الطريق الصحراوي الممتد بين المدينتين طويل وصعب وغير مأهول، وهو ما عرّضه إلى حادث بعد ضلّت فيه سيارته، أفقده حياته، فيتولى ولده فيصل سياقتها بمشاركة نادر ابن صديقه بشير. هذه الصلّة «الجيلية» تتقوّض، مع مجيء ملاك عيسى، بوصفها الأيروسي والسياسي، حيث يتفجّر الصراع الداخلي بين الشخصيتين، فالابن فيصل يتورط بالعمل مع السلطة، فتجعله مسؤولا عن نقل السجناء، من مدينة الكوت إلى بدرة، بعد تقييدهم بطريقة مُتعسفة ولا إنسانية إلى الكراسي الأخيرة من السيارة، والمسماة في الأدب الشعبي العراقي بـ»خانة الشواذي» والصديق نادر يمتعض من هذا السلوك، لكنه يكتم غضبه، ومع مجيء السجينة المنفية «ملاك عيسى» إلى بدرة، تنكشف حُجب الصراع، فيتحوّل وجودها إلى موضوع تنازع حسي وجنسي بينهما، ورغبة في امتلاكها، وهو ما حظي به نادر الذي عاش علاقة جنسية مع ملاك، أحسّت بعدها بأعراض الحمل، ما دفعها ذلك إلى التنسيق معه للهرب من سجن المدينة، وهو ما أغاظ فيصل بوصفه عين الحكومة على السجناء، فقام بإلقاء القبض على صديقه نادر، وإيداعه سجن الكوت، ونقله إلى سجن «بدره» مٌقيّدا إلى كرسي خانة الشواذي، بعد أن تعرضت ملاك عيسى إلى نزيف حاد تسبب في موتها في مدينة هروبها مندلي النائية هي الأخرى.

المثقف وسردية المتاهة

لا تكتفي الرواية بالكشف عن تشوهات المكان عبر متاهته، بل إنها تذهب إلى الكشف عن متاهة الشخصية الثقافية، تلك التي تعيش محنة المكان، ومحنة التحوّل الغرائبي داخله، شخصية «طلال منذر» المثقف والقارئ النهم للكتب إلى قاتل، تكشف عن طبيعة الصراع الوجودي الضاغط في أحداث الرواية، فهذا القتل الجنائي، يتحول إلى قتل رمزي، يُعبّر من خلاله الراوي عن كراهيته للسلطة التي يمثلها فيصل، ويجد في انحيازه إلى نادر تعبيرا عن انحيازه للحرية، لكن موت نادر وفيصل بعد أن جرفت سيارتهما السيول وإنقاذ طلال، جعل الأحداث تذهب في اتجاه آخر، إذ يجد طلال نفسه مسجونا في بغداد، ومتظاهرا ضد السلطة في ما بعد، حيث تقتله الشرطة في تظاهرات السجناء عام 1953.. تحوّل الشخصيات من التآلف البسيط الى الخلاف والصراع العميقين، يكشف عن أزماتهم الُمفارِقة، على مستوى علاقتهم اللاوعية بالمكان المأزوم/ السجن/ النفي، أو على مستوى وعيهم القلق، وهو وعيٌ مشوب بالرغبة والوهم والشغف بالاستحواذ والإشباع الرمزي والرغبوي، وأحسب أن النهايات الفاجعة لهم بدت وكأنها المجال السيميائي لتمثيل انهيار هذه المستويات، ولكي تظل العنونة تسحب عتبتها المهيمنة إلى النهاية، حيث تظل «خانة الشواذي» مفتوحة لمنفيين آخرين، ولأمكنة دوستوبية تقترح رهاباتها على الآخرين..

الأحداث وتقانات السرد

يمكن للرواية أن تكون مجالا لتوثيق «المسكوت عنه» في الأمكنة، وفي وضع السرد مجالا للكشف عن تشوهات النسق، وعن عيوبه، التي تجعل الأحداث مشبوكة بتلك الصراعات، وبما تُحيل إليها، فبقدر بساطة تلك الأحداث، إلا أن ما تبدّى عبرها كان هو الخرق السردي الواخز للتاريخ، الذي عاشت تحولاته شخصياتها المأزومة، والأضحوية في آنٍ معا، فهي ضحية استلابها وهشاشتها، ونفيها الداخلي، مثلما ضحية الآخر/ السلطة وأقنعته الأخرى. هذا المُركَّب السردي يجعل من الروائي عتبته الإجرائية للكشف، وللمعالجة، فيعمد إلى توظيف تقانة السينما، والسرد البوليس القائم على ثيمة الملاحقة والكشف عن الغامض، مثلما يجعل من تقانة «الميتاسرد» مجالا مجاورا للكشف عن ملابسات تلك الأحداث.

الأبواب الأربعة في الرواية هي المستويات البنائية لذلك المُركَّب، فالباب الأول» كلمات متقاطعة» تشي بطبيعة التشابك المُعقّد للأحداث، والباب الثاني «حب خلف الأسلاك» يرسم صورة لعلاقة شائهة، لكنها تحمل معها «الوخز السردي» الذي يُفجّر الأحداث، ويقود الشخصيات إلى التورط في صراعاتها القاتلة، وفي الباب الثالث «نصف الحقيقة» يوظف الروائي تقانة السرد البوليسي للتشويق، ولتمهيد الكشف عن النصف الأول من الحقيقة، وفي الباب الرابع «الماضي حاضرا» تتضح ملامح «المتن السردي» بوصفه متنا حكائيا، والتي يقترن بما هو تمثيلي في «المبنى السردي» حيث يوظف الروائي شخصية «نزار» الراوي الخارجي/ الحاضر، الذي يروي الأحداث عبر النبش في وثائق الماضي، فهو ليس من أبناء المدينة، لكنه يحصل على المعلومات من ملف التحقيق مع «طاهر» الذي يملكه المحامي القديم «نجيب بك» ومن الرسائل التي حصل عليها من صديقه «طه طاهر» ابن المدينة، والمهاجر إلى كندا، وهي هنا توصيف لـ»هجرة ضدية» يلقى فيها مصيره في إحدى مقابرها البعيدة، وكأن الروائي أراد أن يقترح تمثيلا سرديا للاغتراب الذي تعيشه الأجيال العراقية في منافيها/ سجونها/ مقابرها الداخلية والخارجية..

توظيف الراوي بوصفه جامع النصوص/ الوثائق، هي تقنية ذات بعد سينمائي، فـ»نزار» الشخصية الحاضرة، يجد في «اللابتوب» تقانة جامعة/ مؤلفة للأحداث والصراعات التي عاشتها «أجيال الرواية» وعبر التموضع في مكان متعالٍ/ شارع حيفا، وفي زمن إيهامي/ بعد احتلال بغداد، لكي يقوم بصناعة نصه السردي، النص الذي يقوم على إدخال الوثيقة/ الرسائل في سياق تأليفي، هو الأقرب للتخيّل، بوصفه جوهر السرد، لكنه مدخل مهم لقراءة التاريخ أيضا، وكذلك عبر مسؤوليته في إعادة ترميم لوحة صديقه المتوفى «طه» الذي سرقت أو أتلِفت جرّاء أحداث بغداد بعد عام 2003، بوصفها لوحة أو شهادة، أو نسقا حافظا، أو راويا للفواجع التي تعرّضت لها الأجيال العراقية.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي