الجديد والمتجدد في ديوان «المقر الجديد لبائع الطيور»

2023-07-20

 عبدالرحيم التدلاوي

يقدم لنا الشاعر المغربي عمر العسري كتابا شعريا يتفرد بالبساطة والعمق، قصائده لا تهادن وهي تقارب الواقع بتصور مختلف للشعر وطريقة العرض والكتابة. ولعل من سمات هذا الديوان أنه يتطرق لقضايا متعددة بفنية التقاطية وجمال، بحيث تأتي نصوصه متناغمة المعجم غير متنافرة، طارحة، من بين ما تطرحه، قضية الجديد والمتجدد انطلاقا من بنية العنوان ومرورا بالإهداء وعبورا للقصائد.

فعلى مستوى العنوان، يلاحظ اختياره للمألوف والصادم في آن، فلم يختر عنوانا شاعريا قادرا على لفت انتباه القارئ، كما سعى إلى ذلك الكثيرون، بل اختار عنوانا بساطته غير مهادنة، لكنه كان بمثابة فخ مصنوع بدهاء يحث الناظر/القارئ المحتمل على الإقبال عليه، وفتح دفتيه لقراءة محتوياته، وتلك البساطة اللغوية جاءت لتعضد الفخ المنصوب كونها تجعل القارئ وهو يتصفح العمل متورطا في فعل القراءة، إذ يشعر بأن القصائد تخاطبه، ويشعر بالانتماء إليها.

وكلمة «الجديد» من ركائز العنوان، وتفيد الانتقال من مكان إلى آخر بحثا عن مناخ جديد ومفارق للمكان الأول ومختلف عنه. وهذا الانتقال كان لأسباب معينة لعل أوضحها هو البحث عن المغاير نفورا من التكرار والرتابة، ويتأكد البحث عن الجديد في كلمة الإهداء الموجهة لأخت الشاعر، حيث ترد كلمة «المتجدد»؛ وهي وإن كانت لا تفيد الانتقال إلى مكان آخر، لكنها تفيد التجدد فيه بفضل حضور الكلمة السحرية التي إن غابت أوجبت المفارقة والانتقال بعيدا صوب مكان آخر، تلك الكلمة السحرية هي الحب، فبفضله تتجدد الحياة، وتمتلك طاقة الانفتاح عليها، وهي القادرة على كسر الرتابة والشعور بالملل. وقراءة الديوان وفق هذا الطرح ستكون بمثابة مفتاح لولوج عوالمه الخصبة والثرية للقبض على قضايا أخرى وعلى كيفية بسطها. لكن المهم أن القصائد أتت بمعجم متناغم، لكن كيف تحقق ذلك؟ اقتضت ثنائية الجديد والمتجدد التوقف عند خاصيتين:

التناغم

يتبدى هذا التناغم فيما تحقق من ضرب المثل التالي، خاصة من قصيدة «تمثال من فراغ» المشهد الخامس، حيث يقول:

لا بعوضة

قادرة

أن تحط

على مطار جبهتي المتغضنة

فما كنت يوما

من سكان

المدينة الضحلة.

فقد جمع المؤتلف القائم بين البعوضة والمياه الضحلة لرسم صورة مغايرة ومتناغمة في الآن ذاته، تتمثل الأولى لتولد غيرها في ارتباطها بالذات المتكلمة التي تنفي وجود البعوض على جبهتها، لكونها لا تنتمي لسكان المدينة الضحلة. فالذات تباين وتمايز السكان كذات جامعة للمتشابه، حيث تعيش اجترارا مؤلما صير حياتها بركة ضحلة تضاد التغيير وتنفر من التجديد. بخلاف الذات المتكلمة، المتميزة بفردانيتها التي مكنتها من إدراك ذاتها المخالفة للذات الجماعية، وبالتالي، ابتعادها عنها حتى تبقى حياتها في بيئة نظيفة تتميز بتجددها المستمر، وهو تجدد محقق للتناغم. ولعل هذا التجدد والتغير له ارتباط بما ينطوي عليه العنوان الأكبر من دلالات تصب في مجرى التغيير والتجدد؛ فالمقر الجديد تعبير يشي بالانتقال في الأمكنة. ضمن هذا السياق العام والكلي، نجد القصائد تترنم باختلاف الذات ومفارقتها للجماعة، حين تكون هذه الجماعة مستقرة لا تبغي التغيير، بل تنشد التكرار لدرجة استطابتها للماء الفاسد، فحياتها صارت شبيهة بحياة الضفادع التي لا يحلو لها العيش خارج مياهها الضحلة. وفي الصفحة الموالية، يأتي الهجر كفعل يدل على الانفصال والابتعاد، لكنه لا يحمل في طياته معنى التغيير والتجدد بقدر ما يدل على الانتكاسة بفعل تكاثره، الذي يفقد للمرآة جدتها وتجددها، يفقدها بكارتها أي محافظتها على نقائها. إن النص إدانة لفعل الهجر القبيح الصانع للمأساة، والمكسر للنقاء، وحيث تفقد المرآة والرائي ما يميزهما من صفاء ونقاء، يقول:

ما كنت مرآة

فقدت بكارة

فضتها

من كثرة

الهجر.

فالملاحظ أن هذه الذات المتكلمة تنفي عنها صورة المرآة المبتذلة بفعل الهجر، وتقوي دلالة الصفاء على نفسها لأنها تحارب فعل الهجر الذي لا يولد سوى القبح. إن الهجر ليس ترحالا يقود إلى التغيير والتجدد، بل انفصال جارح يفيد الابتعاد مكانا لا الانتقال من واحد إلى الثاني، أي لا يفيد تغيير الأمكنة، وبالتالي تغيير الذات وتجددها، فالبين أن فعل الانتقال يمنح للذات خصوبة لم تكن لتحصل عليه لو أنها ظلت ثابتة في مكانها. وينبغي ألا نغفل كلمة الكثرة التي من بين معانيها القيام بالفعل ذاته مرات عدة لدرجة الملل، فالتكرار الحاضر هنا لا يمتلك قيما إيجابية، بل يفيد السلب لأنه يقود إلى الرتابة القاتلة للصفاء. وتأتي الترنيمة التالية لتؤكد معاني التجدد المرتبة بالحياة في معناها الوجودي والفلسفي القائم على التغيير والتجدد والنافر للرتابة والتكرار الممل، تقول:

الزمن

الرديء

والبارد

لا يتسرب

إلى مفاصلي

إقامتي

باستمرار

في إناء دافئ

يطفح

بحساء الحياة الساخن

فالترنيمة تجمع بين النفي والتأكيد، نفي السلب وإثبات الإيجاب، نفي الرداءة وإثبات الجودة، نفي البرودة وإثبات السخونة. فالصورة الأولى ترتبط بالضحالة في ما الثانية نجدها ترتبط بالتجدد المولد للحياة. فالترنيمة ذات نغمتين، الأولى تصل إلى المفاصل، والثانية إلى النهاية. وتجمع ذات المتكلم بينهما، نفيا وإثباتا، علما أن الإقامة في إناء دافئ تعد صورة مبتكرة تحيل على الرحم الذي يعبر عن الأمان والصفاء وعدم التلوث.

ويتواصل صوت القصيدة بالقول:

بالبسمات

بالضحكات

بالورود

بالمزهريات

بالقبل

بالحقائب

المليئة

بالأسنان

الاصطناعية

بالبلابل

بالماء

بالنبيذ

بالقردة

المتقافزة

بين أشجار المجاز.

حيث يلاحظ هذا التكرار التركيبي المتشكل من الجار والمجرور، ينمو في إيقاع تصاعدي ليبلغ مداه المنحاز للكلمة المجازية، وبذا، يعود القارئ إلى النص ثانية وثالثة يسائل قراءته/قراءاته في ضوء المجاز المعبر عن الختمة المربكة. واللافت للانتباه أن عمر العسري كثيرا ما يأتي بقفلات غير متوقعة تؤكد مهاراته في إرباك القارئ والدفع به إلى إعادة تشكيل قراءاته، أو إعادة بنائها وفق النغمة الجديدة التي بلغها في النصوص، وهي، لعمري، ضربة فنية مميزة، وتقنية فنية قادمة من جنس السرد. ثم، ألا تستدعي الرنة نصا معروفا ومتداولا ألا وهو النشيد الوطني؟

ويختم النص بقوله:

بكل هذا الهراء

أصنع قدري

ثم أمضي

إلى النوم.

تحقق التناغم وفق بنية تركيبية مختارة بعناية فائقة، وتبين لنا أن الشاعر يجازف بالشعر لخلق تناغم خاص، وهذه المجازفة هي من كنه الكتابة الجديدة والمتجددة، والتي تستجيب لروح وجودها.

التسريد

اقتضت استراتيجية التسريد كتابة شعر أقرب إلى الحياة، وقد تمثل الشاعر وضعيات وجودية برؤية قريبة جدا من إنيّتِه، لا يبتغي سوى النزول إلى الوقائع والأحداث، لكن بوعي مختلف، يتجدد على نحو مغاير، وهو ما عكسته جل قصائد الديوان، ونمثل بقصيدة «منديل أبيض مضرج بالفراشات الميتة». ويلاحظ الانزياح الحاضر في هذا العنوان، واستدعاؤه لمتخيل المنديل الذي يكون مطرزا بالحب، لكنه، هنا، ينزاح عن الصورة المتداولة لصالح أخرى مليئة بالعنف والدم، إذ جمع بين لونين؛ واحد يرتبط بالطهر والنقاء، والثاني يرتبط بالعنف والوحشية، وتزداد الصورة عنفا حين يكون هذا العنف واقعا على رمز من رموز الجمال، ألا وهو الفراشة الضحية. ولأنها رقيقة وهشة، فيمكن سحب المعنى على الأنثى، مع استحضار ليلة الدخلة، حيث المكان الخصب لهذا العنف الرمزي والمعنوي بتواطؤ جماعي. فالرمز مثخن بالجراح، والناس تنتظر لحظة إعلان الفرح بتقديم وثيقة البراءة للأنثى أو إدانتها لينقلب العرس إلى مأتم.

قدم لنا عمر العسري ديوانا شعريا يتميز بالرشاقة وبمعجم يقترب من اليومي حتى ليبدو بسيطا دون تضاريس، والحق أنها استراتيجية المبدع، فقد اقتنص الشاعر اللحظات الهاربة، وجسدها في نصوص عميقة ومكتنزة الدلالات، سمتها التكثيف وتجنب السمنة البلاغية الضارة برشاقة النصوص، فجاءت لذيذة بطعوم شتى بفعل انفتاحها على التأويل المتعدد. نصوص تبدو بسيطة، لكنها عميقة في طرحها الفلسفي المسائل للوجود والحياة. إضافة إلى وجود علاقات عضوية بين المحتوى والشكل في القصيدة؛ فضلاً عن سمات أخرى قد تنفرد بها اللغة الشعرية، لجهة المجاز والإيقاع والانزياحات الدلالية والسمات الإيحائية العالية للمفردة الواحدة داخل الجملة، ثمّ للجملة ذاتها ضمن معطى تركيبي وأسلوبي أوسع.

عمر العسري في «المقر الجديد لبائع الطيور» لم يكن شاعرا فحسب، وإنما تمكن من بلورة رؤيته الشعرية عن المدينة والأشياء، وهي رؤية كتابية تتطلب وعيا فنيا وجماليا مغامرا بمنطق الشعر، لأنه فتح افق القصيدة الشعرية على أبعاد جديدة، وعلى حركة نازلة لا تتقصد سوى تمثل الحياة المعاصرة وفق شعر تجريبي، لكنه خفيض بالمعنى الذي يترك أثرا جميلا عند المتلقي.

عمر العسري، المقر الجديد لبائع الطيور- شعر، دار أكورا للنشر والتوزيع – طنجة، الطبعة الأولى 2021.

ناقد مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي