السرايا الصفرا: ذاكرة الجنون والتلاعب بها في المدينة العربية

2023-07-19

محمد تركي الربيعو

لاحظ عدد من المؤرخين أن العلاقة بين الجنون والمدينة العربية مرّ بمراحل عديدة، المرحلة الأولى هي تلك التي يصفونها بمرحلة ما قبل الحداثة، وفي هذه الفترة كانت النظرة للجنون أن منشأها اجتماعي أو يومي، وبالتالي فالمجنون هو شخص غير خطير، ولا سبيل لعودته للصواب إلا بشفاء العلة. اللافت أن هذه الرؤية عبّرت عن نفسها في قصص كثيرة، ومنها قصص ألف ليلة وليلة. ففي إحداها يقوم الخليفة العباسي هارون الرشيد بزيارة إحدى البيمارستانات، وهناك سيلتقي بشاب أصابه الجنون بعد أن تعلق قلبه بفتاة من قصر الخلافة؛ فما كان من الخليفة العباسي إلا أن أخذ بيد الشاب الى القصر، ليزوجه بهذه الفتاة ( ابنة عمه). سيظهر الرشيد في هذه الحكاية فوكوياً (نسبة لميشيل فوكو)، فهو لا يرى أن علة الشاب صحية، بل ناجمة عن عالم رمزي آخر (الحب).

مقابل هذه الرؤية، نلاحظ أنه مع قدوم الحداثة ستكون هناك رؤية أخرى للتعامل مع الجنون بوصفه مرضا، وهو ما كان يعني اختلاف النظر تجاه المصاب بالجنون. وبموازاة هذه الرؤية، يلاحظ أيضا أن الخطاب العربي أخذ يشن هجوما على أي ملامح أخرى مخالفة لرؤيته الحداثية تجاه الدين والسياسة، مثلا بات كل المتصوفة في رأي هؤلاء الحداثيين ليسوا سوى أشخاص مصابين بالجنون وبمرض عصابي. والنتيجة هو أن المدينة العربية فقدت طابعها اللاعقلاني في البداية، لتأتي لاحقا رؤية أخرى ترسم صور عن الحواضر العربية، بوصفها حواضر عقلانية، تتجمع فيها الأسواق والمصالح، ولا مكان فيها للأفكار وقيم الحب (الجنون)، أو للأساطير والحكايا اللاعقلانية (التي هي موازية لعالم الجنون). اللافت في هذا الجانب، أن الروائي العربي هو من سيعيد للجنون مكانته داخل المدينة العربية، إذ سيأتي حكواتي العالم الجديد ليقول لنا إنه بموت الجنون تموت الحياة في المدينة.

تلاحظ الأستاذة وين جين أويان في كتابها «سياسة الحنين واتجاهاته في الرواية العربية»، أنّ موضوع الجنون كان حاضرا في الرواية العربية، خاصة أنه يخبرنا عن الخبرات المعيشة التي مرّت بها الأمة ـ الدولة. فالجنون في رواية «ليالي ألف ليلة» لنجيب محفوظ يمثّل دور الثورة ضد القوانين المرعية. وبما أنّ العقلاء يبدون مترديين أمام الظواهر الثقافية والاجتماعية، يمكن للمجنون إشهار أسلوبه في رؤية الأشياء. الشيء نفسه نراه في أعمال الروائي السوري خيري الذهبي ومنها، روايته «المكتبة السرية»، فالحفيد لا يرى من حلّ في مواجهة الجنرال الذي يرغب بتدمير مكتب أجداده (تراث المدينة) سوى بالاستعانة بكرامات جده الصوفي (المجنون المقدس/أو المفكر اللاعقلاني وفق التعبيرات الحداثية). مع ذلك نعتقد أنّ مشروع الذهبي في إيقاظ مجانين المدينة وعفاريتها وحكاياتها العجيبة، لم يرتبط فقط بمواجهة الاستبداد، بل كان يطمح من خلال إحياء قصص الجنون في دمشق إلى استعادة حق الخيال في المدينة، فقصص المجانين والعفاريت والمتصوفة، هي نصوص رمزية مفتوحة دون منازع، وهي القادرة على توريط القارئ وأهل المدينة مرة تلو الأخرى على التخيل، ودونها يعني الموت الرمزي لأبناء المدينة (يظهرون أشخاصا عقلانيين، لا مكان للحب والقيم في حياتهم، وإنما المصالح فقط).

مذكرات في مشفى مجانين:

وبالعودة للخطاب العقلاني تجاه الجنون، يبدو لنا أن هذا الخطاب أيضا كان ينطلق من مستويات عديدة، بعضها علمي متأثر بالرؤية الفرويدية، وهو ما كان محل قراءة مهمة من أمنية الشاكري في كتابها «فرويد العربي». وهناك خطاب آخر يبدو أنه تورط أحيانا بالسياسي، أو لنقل ورط بالمزاج السياسي السائد دون أن يقصد ذلك بالضرورة. وكمثال عن الأخير، أشير إلى مذكرات الطبيب المصري محمد كامل الخولي، التي تناولت تجربته في عدد من مشافي المجانين في القاهرة على مدار أربعة عقود تقريبا (1916-1953). وكان قد نشرها في مجلة «المصور» الصادرة عن دار الهلال خلال الفترة من يناير/كانون الثاني إلى أبريل/نيسان 1954، أي بعد سنتين تقريبا من ثورة الضباط الأحرار في مصر 23 يوليو/تموز 1952، وهو موعد له دلالاته. وقد فعل الصحافي المصري محمد الشماع خيرا عندما أعاد نشر هذه المذكرات مرة أخرى لتصدر عن دار المصري للنشر والتوزيع، مع أن هناك ملاحظة واحدة يجب الإشارة إليها وهي، أن الكتاب صدر باسم المحقق محمد الشماع، بينما كان من المفروض وضع اسم الخولي في المقدمة، مع إشارة إلى دور الشماع في تحقيق النص، وإضافة بعض الشروحات والقراءات للنص.

يروي لنا الخولي في هذه المذكرات رحلته في دراسة الطب في القاهرة، وتخصصه لاحقا في الطب النفسي في لندن، قبل أن يعود ليرى نفسه دون عمل، ما اضطره لفتح عيادة في مدينة طنطا. حصل لاحقا على عمل برفقة طبيب بريطاني في مشفى العباسية. مع دخوله لعالم مشافي المجانين، ستبدأ رحلة تشارلي تشابلن المصري (كما كان يلقبه الطبيب الإنكليزي)، وهي رحلة محفوفة بالقصص وسير عشرات الأشخاص الذين زاروا المشفى للعلاج من الجنون. وفي حالات أخرى نعثر على لصوص ومجرمين مثّلوا أمام السجانين أنهم مصابون بالجنون، لكي يصلوا إلى المشفى ويعيشون في هناء، أو للهروب لاحقا. يبدو الخولي في معظم القصص متبنيا الخطاب الحداثي حول الجنون بوصفه مرضا. ولدعم هذه الرؤية نراه يشير إلى قصة رجل في السبعين من عمره كان يعيش في مشفى المجانين، وخلال وجوده اتجه إلى البحث في تاريخ الجنون والمجانين في مصر، ومما ينقله الخولي عن كتاب مؤرخ المجانين المجهول، أن المرضى قبل 200 عام كانوا يربطون بالسلاسل إلى الجدران، خشية أن يفروا، وكان علاجهم المفضل هو وضعهم تحت الحمام (الدش) بعد تجريدهم من ملابسهم. ولعل اقتباس الخولي هذه العبارات تأتي في سياق دعمه لهذا التوجه أو القراءة للجنون، التي تؤكد أنه حالة مرضية، تحتاج لعلاج طبي.

السياسة والجنون

الأهم من هذا التوجه، هو أن الخولي يقوم بتوظيف قصص المجانين لصناعة ذاكرة أخرى عن الجنون في القاهرة، وهي ذاكرة يبدو أنها تأثرت بالأوضاع والأحداث السياسية (وأعني هنا ثورة الضباط الأحرار عام 1952). ففي الكثير من الحكايا التي يرويها عن المجانين، يخيل للقارئ أن أبطال وزوار مشافي المجانين قبل الثورة في الغالب من أسر مصرية عريقة. أبناء باشوات، أو من عائلة الملك فاروق. يحدثنا الخولي مثلا عن قصة سيدة تركية ، تمت بصلة القربي إلى أسرة محمد علي «كانت متكبرة متعالية، تنظر إلى الناس نظرتها إلى مخلوقات حقيرة، وكانت مصابة بجنون الاضطهاد». نعثر في مكان آخر من المذكرات على أحد الباشاوات الذي تزوج من سيدة أو جارية (لعلها تمثل أبناء الثورة)، وعن رفض أولاد الباشا الزواج من خلال اتهام والدهم بالجنون. ونرى الأطباء الإنكليز (الاستعمار) وهم يتآمرون مع أولاد باشاوات لوصف أشخاص آخرين بالجنون مقابل رشوة ما، بطريقة توحي وكأن الإنكليز كان لهم دور في رسم ذاكرة وصناعة المجانين في القاهرة، وهو أمر لا يمكن نفيه على صعيد المشافي والمفاهيم التي أدخلوها، لكن في رواية الخولي، هناك قصص عن تعاون من نوع آخر بين مستعمرين وأولاد باشاوات ضد باشوات مجانين. وهكذا تسير القصص حتى نصل إلى فقرة بعنوان «فاروق مصاب بالتقلب الانفعالي!».. في هذه الفقرة يقرر الخولي تقديم قراءة نفسية لتاريخ العائلة المالكة في مصر، وهنا يجب الإشارة إلى أن هذه القراءة تأتي بعد ثورة الضباط الأحرار، ولا نعلم إن كان سيفعل ذلك لو لم يجر هذا الحدث. في هذه القراءة يقول الخولي إن تصرفات الخديوي إسماعيل وغيره من أفراد أسرة محمد علي، كانت تصرفات إن لم تدل على السفه، فهي لا شك تدل على الجنون، فقد «دل إسماعيل على جنونه حين كبل مصر بأغلال الدين»، كما أن الملك فاروق كان يضحك ضحكات هستيرية خلال زيارتهفي إحدى المرات لمتحف الطب الشرعي في الإسكندرية، وكان الخولي وقتها حاضرا، ما جعله يرى في ضحكاته دليلا على خفة العقل.

وخلاصة الأمر، أن الأسرة الملكية، وفقا لسرير الخولي النفسي، التي حكمت مصر لقرنين لم تكن سوى أسرة مجنونة في رأيه (وهذا ما ينطبق كما يرى حتى على محمد علي باشا).

نرى في هذه القراءة، كيف أن الخطاب العلمي للجنون يتورط أيضا في السياسي، فالخولي يبدو في هذا النص متحمسا وقريبا من خطاب الثورة ضد العائلة الملكية، أو لعل مجلة «المصور» حاولت من خلال مذكرات الخولي، التأكيد على شرعية الثورة، وعلى القول إن الضباط قاموا بالثورة لإنقاذ البلاد من بضعة مجانين كانوا يسيطرون عليها. اللافت أن هذا الخطاب الذي يوسم الآخر في السلطة بالجنون، سيظل يحكم الحياة السياسية في المدينة العربية ليومنا هذا، فالآخر دوما ما وصفت مطالبه باللاعقلانية، وحتى أي فكرة بالتغيير أحيانا ما تربط صاحبه والمجانين، وهو وصف في الغالب يأخذ طابعا سلبيا. هناك نقطة مهمة من الضروري الوقوف عندها أيضا، وهي كيف أن المذكرات تبقى نصا غير بريء، فهي وإن كانت تحاول رسم صورة عن الماضي لكن في الوقت نفسه عادة ما تنقل الذكريات رائحة الذي كتبت ونشرت فيه. وفي حالة الخولي، يبدو أنه بدا متأثرا بالأجواء التي كانت تعيشها مصر بعد ثورة الضباط، وهذا التأثر انعكس على قراءته لذاكرة الجنون والمجانين في النصف الأول من القرن العشرين، وبالتالي نحن أمام خطاب علمي لكنه متورط بالسياسي اليومي. لكنّ ذلك لا ينفي بالمقابل أن مذكرات الخولي تعد نصا فريدا، يستحق الاهتمام والقراءة.

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي