عن إسطنبول وسواها غداة الحرب الأولى: الرحالة الذي لم يتأخر كثيرا عن حضور التاريخ

2023-07-18

حسن داوود

أحبّ الروائي جون دوس باسوس، أن يصف نفسه بأنه «الأمريكي المتجّه شرقاً». اقتصر ذلك على الوقت الذي استغرقته رحلته عبر أوروبا الشرقية مارا بتركيا جورجيا وأرمينيا والمغرب وإيران والعراق وسوريا. كان ذلك في زمن انكسار هذه البلدان جميعا، نتيجة ما ألحقته بها الحرب العالمية الأولى. مفتتح الرحلة كان في القسطنطينية، في تركيا المهزومة، التي في تلك السنة، 1921، بدا كما لو أن لا شيء مهماً بقي من دولتها، كما من تاريخها. في الشوارع التي جال فيها دوس باسوس كان رجال من الجيوش المنتصرة، أي تلك التي ألحقت الهزيمة بتركيا، يسيرون جماعات جماعات. شرطة بريطانيون وآخرون فرنسيون ومثلهم طليان ويونانيون كانوا يجوبون المدينة، وكان هناك أيضا استخباراتيون من أذربيجان وجواسيس من أرمينيا، وقوافل من الأسرى الروس الذين هزموا هم أيضا. لم يكن مصير تركيا قد ارتسم بعد، وكل من أولئك الماكثين هناك كان ينتظر أن ينال حصّته من تلك الغنيمة الكبيرة.

وفي فندق بيرا بالاس، حيث تنزل النخبة التي يأتي بها «قطار الشرق السريع» وكان دوس باسوس أحد ركابه، بدت الفخامة ذائعة الصيت وقد جارت الانهيار الذي حلّ بالمدينة. نزلاء الفندق، أو روّاده، هم من قادة شرطة الحلفاء ومن رجال الاستخبارات الذين أرسلوا ليكونوا حاضرين في التهيئة لمصير الإمبراطورية المنهارة. بعضهم حضروا بأحذيتهم الثقيلة ومدبّرو الفندق كانوا قد تعبوا من الفوضى التي عمّت أنحاءه. وفي الصالات الكبيرة كانت النقاشات بين الحاضرين لا تختلف كثيرا عما يجري بين العجائز الجالسين على الطرقات يدخّنون غلايينهم. «البولونيون سيأخذون القسطنطينية» يقول أحدهم متخيّلا ما سيفعله مصطفى أتاتورك تعليقا على افتراض مساعدة البولونيين له «هراء» يردّ أحدهم «اليونانيون هم الذين سيأخذونها- البريطانيون- الفرنسيون- البلغار- عصبة الأمم- الأتراك- أقترح أن يجعلوها محايدة ويقدّموها لسويسرا، هذا هو الحل الوحيد».

لكن سريعا ما غادر دوس باسوس تركيا، ليطوي صفحة الكلام عما شاهده فيها، هكذا هي الحال في كتابة الرحلات إلى الرقع الواسعة جغرافيا. كأن ما جرى في فصل الكتاب السابق، فصل تركيا، انتهى كلّه، وها إننا في فصل آخر جديد، خصوصا أن غاية رحّالتنا من كتابه ليس البقاء عند موضوع واحد، حتى لو كان هذا الموضوع في أهمية ما انتهت إليه الحرب العالمية. في إيران كانت المشاهد تتتالى مع تغيّر المدن التي يعبر فيها الرحالة، مصاحبا بآخرين بينهم السيد إسماعيل، وهو طبيب مسلم تخرج من أوروبا. وصفُ الطبيعة ومعالم الأمكنة حاضر بقوة في الفصل الإيراني، كذلك حاضرة معه عادات الإيرانيين وشعائرهم، التي بينها احتفالات عاشوراء، وقد صادف وجود دوس باسوس في أيام ذكراها، ما أتاح له أن يسجّل المشاهدات الأكثر خصوصية وعمقا في ممارسات الإيرانيين الدينية، تلك التي سبقه إليها وخلّفه بعد ذلك كتّاب كثيرون بينهم غوبينو وإلياس كانيتي وسواهما. ولنضف إلى ذلك وصفه لما شاهده، برفقة السيد إسماعيل إياه، من عبور قافلة الحجيج المتجهة إلى مشهد لزيارة ضريح الإمام الرضا. يكتب دوس باسوس في ذلك إن الأحياء ليسوا وحدهم من يتمتعون بمزايا الحج، وإنما الأموات أيضا. ففي مؤخر القافلة «يسير خطّ طويل من البغال رُبطت فوقها توابيت لإعادة دفن الموتى في الأماكن المقدّسة».

«لو كانوا يهتمون هنا بالأحياء كما يهتمون بالأموات، لأصبحت إيران من أرقى دول العالم «قال السيد إسماعيل معلٌّقا على موكب الحجيج، ومستأنفا في الوقت نفسه أطروحته عن الصناعة والبوليتكنيك اللذين يتميز بهما الغرب. وعلى الرغم من معارضة دوس باسوس للركائز المادية للرأسمالية، إلا أنه، في مواضع عديدة من رحلته، يرى أن حياة الشرقيين، والأمر ينطبق على جميع بلدان المسلمين، تشبه نهرا جافا لا توجد فيه تدفّقات أو سيول. أما في الغرب، حسبما يقول أيضا، فإن الدم يتدفّق بحرارة والعالم يعيش في فوضى ورومانسية تجري فيه أحداث رائعة غير متوقّعة.

في رحلته تلك لا يغيب الشائع من تاريخ الشرق عن نظرة دوس باسوس فيما هو يشاهد ويرى، كما لا تغيب الأفكار التي كانت متداولة في أيامه عن تراجع شعوب تلك المناطق. كأنه يتأكّد بالمشاهدة مما كان يعرفه، أو يعرف بعضه على الأقل. وهذه الأفكار لم يفت عليها الزمن أبدا، إذ ما زال يصحّ ما كان قاله رحّالتنا عن أحوال تلك المجتمعات. ثم إنه لم يسْعَ من رحلته تلك إلى إثبات حقائق أو مراسلة صحف، مع أن فصول كتابه كانت قد نشرت تباعا في إحدى المجلات الأمريكية. همّه الأول كان الكتابة في حدّ ذاتها. تؤكّد ذلك المسافة الصحراوية التي تفصل بين بغداد ودمشق، تلك التي احتاج دوس باسوس لعبورها سبعةً وعشرين يوما، والتي يصعب أن نقع فيها على حدث يخالف رتابة حياة الصحراء المستمرة على حالها منذ مئات السنين. في ذلك الفصل من الرحلة، فصل عبور الصحراء، تحولت الكتابة مع رحالتّنا إلى استغراق لا متناه في التفاصيل الصغيرة. حيث له، ككاتب، بدا السكون أكثر قابلية للإلهام من وصف الأحداث ذات الطابع التاريخي. ليكتب تلك الصفحات، كان عليه، وهذا ما فعل، أن يحفّز حواسّه لتبلغ طاقاتها القصوى، مستغرفا في تتبع الأصوات كما في ملاحظة التبدّل اللوني الساحر والمرهف. لقد ذهب دوس باسوس إلى الشرق من أجل أن يكتب أولا. واستغرق في ذلك حتى أنه تحوّل، في فصلي الكتاب الأخيرين، إلى أن يعبّر عما يراه بالشعر الخالص.

كتاب «قطار الشرق السريع – مذكرات رحلة» لكاتب ثلاثية أمريكا التي حملت عنوان USA لجون دوس باسوس نقلها إلى العربية خالد جبيلي، وقد صدرت عن «منشورات الجمل» في215 صفحة سنة 2022.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي