لعبة المتن وإنتاجية الحكاية في رواية «مدينة ضربتها الحمى»

2023-07-17

علي لفتة سعيد

تنتمي رواية «مدينة ضربتها الحمى» للروائي عمار الدبان إلى ما أطلقت عليه الأدب الغاضب، الذي جاء بعد الأدب الخائف، وإن كان زمنها يتحدّث عن ذلك الزمن، لكنها دوّنت بعد رحيله. فهذه الرواية تضع المتلقّي في أتونها منذ البدء عبر بوابة العنوان الذي يقود المتلقّي إلى الدخول في مسالك السرد للبحث عن الحكاية، ويبحث في الحكاية عن مسالك السرد، ليضع بين قبضتيه كمية الحصاد التي أريد لها أن تكون من بيدرها. فطول الرواية ليس نسبيا، حيث عدد صفحاتها يربو على 492 صفحة، بقياسات الرواية الكبيرة فحسب، بل إنها تتحدّث عن زمنٍ تمّت معايشته، ومكانٍ هو الأقرب إلى الروح العراقية، وهو بغداد وإن توسّعت الأمكنة إلى عدّة بقعٍ من هذه الأرض، فإن بغداد بقيت مركز الروي، مثلما بقيت محور المتن الحكائي، لذا فإن اللعبة التي قادت إلى إنتاج الرواية اعتمدت على عدّة ساحات، ولكلّ ساحةٍ تشابه مع الساحة الأخرى، ليس بالاختلاف اللغوي أو اللعب المهاري أو المطاولة على البقاء، بقدر ما هو تنوّع حكائي. فقد قام المنتج بتوزيع حكايته على قسمين وكلّ قسمٍ احتوى على عددٍ من العناوين المساهمة في إنتاج تكوين الرأي عن كلّ عنوانٍ من أجل الوصول إلى غاية التأويل الكليّة ومستواه الجمعي، وبحساب رياضي نجد أن القسم الأوّل، يحتوي على ثمانية عناوين والثاني على اثني عشر عنوانا، لكن السؤال.. هل كانت الحكاية الكلية جامعة للحكايات الأخرى، هل تمكن الروائي من جعل راويه المنيب عارفا بالتفاصيل، ومشيرا إلى المخفيات ومسيطرا على الأحداث؟

إن اللعبة التي اتّخذتها الرواية تنبني على أساس تعدّد الشخصيات، مثلما تعتمد على أن يكون مركز الحدث (المكان) واحدا وهو بغداد، التي سماها مدينة النور، لكن الأحداث التي تقع فيها الحكاية غيّرتها التفاعلات السياسية التي حصلت ما قبل عام 2003، فهي أي فكرة الرواية تراوح بين أن تكون غاضبة على زمنٍ ما، وواصفة لخوفِ ذلك الزمن، ولهذا فإن الانتقالات الزمانية كانت أكثر قربا من تفكيك المحصّلة النهائية، وفي النتيجة كان استخدام المستوى الإخباري بطريقة التصوير، واستخدام المستوى التصويري بطريقة الإخبار، وهي طريقةٌ تحتاج إلى لغةٍ قادرةٍ على المراوغة، مثلما هي قادرة على استمالة المتلقّي إليه، مثلما تمتلك غاية التحوّل من المبنى الحكائي إلى المتن السردي، وعليه فإن اللعبة لكي تصوّر الغضب الفعلي ممّا حصل لهذه المدينة المصابة بالحمى بالفعل السياسي، دون الدخول المباشر في التفاصيل مرّة، ومرة أخرى بصورةٍ علنيةٍ جاءت لتوصيل الفكرة إلى المتلقّي، سواء من ناحية المكان أو البؤرة الزمانية، التي يمكن أن يضع في سلتها كلّ التأويلات المستحصلة، لذا فإن المتن الحكائي اعتمد على إنتاجية المستويات التالية:

أوّلها: المستوى الإخباري الذي يعطي صورة الراوي العليم، والذي يقود فروع القسمين إلى حيث يريد ويشاء داخل الفرع الواحد الذي وضع له عنوانا ليكون هو بوّابة كلّ فرعٍ، ومعرفة أماكن مدينة هذا الفعل، بأحداثها وزمنها وشخوصها وفعلها الدرامي.. مثلا (استعان بالسائق لرفع حقيبته وإدخالها إلى الباص، ودسّ الصرة الخضراء، تعويذة سعاد، في كيس الطعام، أو هكذا اعتقد، وأمسك باليد الأخرى مقبض الباب ليسهل صعوده مذهولا).

ثانيها: المستوى القصدي الذي يكون واضحا في الكثير من الأحيان عند استهلال كلّ فرع، حيث يبدأ به كإشارةٍ دالّةٍ على ما سيأتي من عمليات تقشير للمتن الحكائي، خاصة أن الرواية بدأت باستهلال (الاشتراطي) أو بمستوى قصدي يراد منه أن يكون الضوء الأوّل الذي يشير إلى تفاصيل الرواية، أو السهم الذي يشير إلى اتجاهات التلقّي (عن كل الشواطئ، إذا أردت أن تكتب شيئا عنها، فيجب الكلام عن كل الشواطئ، فكل ما تغفله سيضيع وكأنه لم يكن سوى ما قلت).. هكذا كانت نصيحة مسعود لابنه سامي.. أو بالأحرى وصيته.

ثالثها: المستوى التصويري، وهو المستوى الذي يرافق الإخباري، حيث يذهب ويريد ويعلن ويشير ويسير ويقف، فهو قد اعتمد على أن يكون ضوء الدليل لدال المعنى الذي اعتمد على لغةٍ سيّرها الروائي، وإن قيلت على لسان الراوي، لأن اللغة التصويرية هنا لعبةٌ سرديةٌ أقرب إلى الشعر لكنها لغة سردية.

رابعها: المستوى التحليلي الذي أراده المنتج هنا أن يكون حالتي الغضب والخوف، ليحلّل النتائج التي تأتي من الشخصيات تارةً في حوارها أو من خلال المتن الحكائي، وحتى المبنى الحكائي، لأنه أي الراوي يريد أن يوصل قصدياته المتنوّعة والمتعدّدة والمرتبطة بهاجسٍ واحدٍ هو توصيف فكرة المدينة التي ضرتها الحمى، بالاعتماد على السؤال الكبير الذي يرتبط بالمستوى الفلسفي الكلي وهو (لماذا حصل الذي حصل ولماذا اصيبت مدينة النور بالحمى.. ولماذا..؟) وهو هنا أيضا يمازج بين هذا المستوى والمستوى القصدي، كونه جعلهما يسيران معا وإن اختلفت الاتّجاهات وترك للمتلقّي معرفة التفاصيل (تحرك الباص بهدوء.. ولما اقترب من اجتياز الحد الفاصل بين البلدين، تغرغرت عيناه بالدموع، وكان سيجهش ببكاء طويل، لكنه في لحظة مغادرة البلد، ركض إلى نهاية الباص ليرى آخر مرة، بلده الذي عشق كثيرا…).

إن اللعبة المرصودة بين الاستهلال بجملته القصدية (الاشتراطية) والنهاية التي تكرّرت المشهدية التصويرية الإخبارية فيه، لرؤية بلده قبل المغادرة، مكثت الحكاية التي يمكن أن يلمس فيها المتلقّي في عنصريها الخوف والغضب، حيث يمكثان في متواليةٍ قصديةٍ تارةً وإخبارية تارةً أخرى، والتي جمع فها الراوي كلّ ما يحتاجه من غاياتٍ لتفعيل العنصر الدرامي، الذي يعد واحدا من أهم نجاحات السرد وتحويل المتن الحكائي من مجرّد حكايةٍ تروى إلى مبنى حكائي لتكون رواية تُسرد.

اللغة وانتقالات الحدث

إن اللعبة السردية في هذه الرواية اعتمدت ليكون قوامها مقبولا على اللغة.. فهي لغةٌ واصفةٌ لكلّ ما يمكن أن يخطر ببال المتلقّي، وما يراد للشخصية أن تكون عليه، وما يمكن أن يمنحه المكان من فاعلية الوجود، وما يمكن أن تفعله الدهشة المطلوبة من قرار الجذب، ورغم أن اللغة في الكثير من المفاصل تأتي مكرّرةً في الجملة، أو ذكر المفردة داخل الجملة السردية، لكنها كانت بفعاليةٍ تريد أن تعّبر عن ماهية التأويل الكلّي لهذه الجملة أو تلك، ولهذا المبنى أو ذاك المتن، وبالنتيجة كانت اللغة هي الغلاف الذي أحاط بالفكرة من جهة، وهي الفاعل الحقيقي لكل المستويات التي انبنت عليها الرواية كفكرة وحكاية.. غضبا وخوفا.. غايةً وقصدية. إن اللغة هي المفتاح الذي وزّع في داخله المنتج أقفال نتاجه، وهذه اللغة تبدأ بالاستهلال كما ذكرنا في كلّ الفروع، لتقود الفعل الدرامي وعنصر الصراع (يبدو أنه لم ينجح هذه المرة.. لقد اعتصر ذاكرته ليروي ما ينسيهم ويلات هذه الليلة، فروى حادثة كان مصمما ألا يرويها لبشر أبدا.. لكن يبدو أن الأجواء من الأصوات إلى السماء المبقعة بالقذائف إلى الوجوه الفزعة المحيطة به، أرجعت إليه تلك السنوات الميتة في ذاكرته كما كان يعتقد).

واللغة هنا ليست تصويرا لفاعلية متنٍ سردي، بل أيضا لفاعلية قدرةٍ إنتاجية، فهي أيضا، أي اللغة التي اختيرت هنا، تعتمد على عدة مفاهيم.

أوّلا: إنها لغةٌ وصفيةٌ شارحةٌ مستمرّةُ الفعل، عادية الوجود، تصاعدية الحدث، وربما فيها زيادةٌ في الوصف لكلّ شيء (طلب عادل بعدها من المضيفة الحسناء شايا حين أخذت الأقداح الفارغة، كم تمنى لو كان رائع النكهة كذاك الذي كانت تعده نجوى كلما زارها في المكتبة، لكن خيبة أمله كانت متوقعة، رغم أن الكوب الجميل الذي أغرق فيه كيس الشاي مع كيس ورقي صغير موضوع على الصحن يحوي على السكر ورغم الأنامل الصغيرة الناعمة التي يظهر جليا انها لم تعرف عملا عنيفا).

ثانيا: إنها لغةٌ استدراكيةٌ تحمل وصفا بطريقةٍ تقترب إلى الشعرية (اعتذر عادل عن إزعاجه للشيخ فبادره بتحية مع ابتسامة، ردها الشيخ فورا بتكشيرة لو كان عادل في مزاج أصفى للاحظ بسهولة أن أربعا من أسنانه كانت تحتاج إلى زيارة مستعجلة لطبيب الأسنان).

ثالثا: إنها لغةٌ تريد قول كلّ شيء، عن أيّ شيء، ويراوح ما بينها صوت الراوي مرّة، والروائي مرّة أخرى، وصوت الشخصيات مرّة أخرى، وهو ما ذكرناه باستخدام المستويين القصدي والتحليلي، بهدف جعل البساط السردي سائرا على جناح الروي (بدأ الظلام ينتصر في حربه على مدينة النور، وصار يتقدم وقضم نهارها ما لا يستطيع رده، وابتدأت الوجوه ترتدي علامات الاستفهام عن الغد).

رابعا: إنها لغةٌ يأتي بها الحوار الذي ينتقل ما بين أن يكون بلغةٍ ثالثةٍ وأخرى فصيحةٌ وأخرى في اللهجة العامية، حيث يجد الروائي أن مهمة هذه الشخصية أن تقول بصوتها بهذه الطريقة أو تلك.

(- لمَ لم يكن التعتيم مفيدا إذن؟ ألم تلاحظوا أنهم لا يأتون سوى في الليل؟ هم لا يحتاجون أن ينظروا ليعرفوا، هذا نحن فقط.. ردد عادل متفاجئا أن الكل لم يلاحظ هذا.

– عمو.. هاي مو مهمة.. كلهم توسطوا.. بس ليش نقبل.. جيشنا قوي وراح نتخلص، والخير يعم البلد.. رددها مدفوعا بتصديق ما يقول ابناؤه المرتبطون بالدولة).

إنها رواية حاولت قول كلّ شيء بطريقة الحكي، وهي رواية أرادت من الحكاية التعبير عن الغضب، وعن مرحلة الخوف وما تسبّبت به من إصابات للجميع بما فيها مدينة النور.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي