«هل كان سائق تاكسي في لندن اسمه رودجر؟»: عن تجارب صحافية تونسية في الـ BBC

2023-07-16

محمد عبد الرحيم

نشأتُ في بلد بزعامة رئيس اعتبره البعض سابقاً لعصره، أراد أن يكون بلده متنوراً وتقدمياً، واعتبره آخرون علمانياً راديكالياً. أما أنا فلم أعرف سوى هذه الأفكار والسياسات والحقوق التي كانت بالنسبة لي ولبنات جيلي من المُسلًمات، إذ كبرنا في كنف دولة يُخالف فيها ما يتوقعه الآخرون في بلدانهم».

في كتيّب يقع في حوالي 120 صفحة بعنوان «هل كان سائق تاكسي في لندن اسمه رودجر؟» تسرد الصحافية التونسية منيرة الشايب بعض رحلاتها والموضوعات التي تناولتها خلال فترة عملها في الإذاعة البريطانية BBC كمترجمة ومُعدّة ومنتجة برامج. الكثير من البلاد والشخصيات والقضايا تناولتها في بساطة، دون تعقيد أو إعطاء الأشياء أكثر من حجمها، مُبتعدة بذلك عن دور البطولة المعهود، كما في هذا الشكل من المؤلَفات ـ بخلاف حكاية الحب والزواج كفتاة عربية ـ عملت الشايب في بي بي سي عام 1987، وكانت وقتها في بداية العشرينيات من عمرها، وحتى تركتها في صيف 2011.

بلد صغير أصبح حديث العالم

ذهبت (منيرة) إلى إنكلترا في أول عمل رسمي لها في هذا المكان المرموق، وبالكاد كان الزملاء ـ من غير العرب طبعاً ـ يعرفون اسم هذا البلد الصغير الذي أتت منه، فالكثير يجهلونه ولا يعرفون أين يقع، فالبعض اعتقده تنزانيا، والآخر توقع أنه إندونيسيا! ناهيك عن عدم نطق اسمه كما تعودته (منيرة) ليصبح عدة أسماء لا تمت له بصِلة. لكن بعد الثورة التونسية التي قامت في آواخر ديسمبر/كانون الأول 2010، وحتى منتصف يناير/كانون الثاني 2011 أصبح اسم (تونس) يتردد في أعرق المؤسسات الصحافية والإخبارية في العالم، وأصبحت هي مَعْلما من معالم مكان عملها، وأصبحوا يرونها ـ حسب قولها ساخرة ـ خبيرة في الشأن التونسي. ورغم تأييدها ما حدث كرد فعل لموقف (محمد بوعزيزي) والكثيرين من أشباهه ممن يعانون البطالة وسوء الظروف الاقتصادية، إلا أن هناك ملمحا من أسى على ما حدث لزين الدين بن علي، وأنها تخشى وترتعب من الفوضى التي سوف تحل بعد ذلك. وبالطبع لن نناقش مآل ثورات الربيع العربي لأنها نتيجة مؤامرات أجهزة داخلية ــ المآلات لا الثورات ـ كانت أكثر دهاء من الشعوب. التأسي نفسه نراه عند حديثها عن القذافي، ومدى دوره في توحيد القارة الافريقية، الذي انتهى بعد مقتله والتفكك الذي أصاب ليبيا حتى الآن!

لغة شكسبير ذهبت معه

تشير الشايب إلى زيارتها لندن للعمل، وكيف أن أهل لندن لا يتكلمون الإنكليزية التي تعرفها ـ متخصصة في الأدب الإنكليزي ـ حتى إن أحد الزملاء قال لها إن «لغة شكسبير ذهبت معه» فكان عليها التعلم من جديد من خلال واقع الحياة كيفية التواصل من خلال هذه اللغة، وكذلك بعض اللكنات المغايرة تماماً عن اللغة الإنكليزية العامية للمدينة. بخلاف ذلك تتطرق إلى العادات المختلفة بين فتاة نشأت في دولة عربية تخضع بالضرورة لأعراف الشرق، مهما كانت الحريات التي حظيت بها في عهد بورقيبه، وأسلوب الحياة بين الجنسين في إنكلترا، حيث حرية العلاقات، والتحرر من أي قيود، حتى التي لم تخطر لها على بال.

المشردون

لفت انتباه الشايب طوال طريقها من المترو وحتى مبنى الإذاعة البريطانية الطابور الطويل من المشردين، الذين يفترشون الأرصفة، بوسادة من الكرتون وغطاء قديم متهالك، وكذا المناوشات والمعارك على مكان النوم، دون أن ينتفي ذلك ومشاهدة أحدهم يقرأ ليلاً على ضوء مصباح. وتعقد بالضرورة المقارنة بين هؤلاء، والمشردين في تونس، حيث يقل عددهم كثيراً، فالكثير لديه مأوى الأهل أو الأصدقاء، لكن المفارقة في رؤيتها أحدهم وهو يُمسك بجهاز (آيباد) حيث بالتأكيد لن يكون صاحبه في تونس مفترشاً الرصيف.

إعاقة

قامت منيرة الشايب بعمل برنامج عن ذوي الاحتياجات الجسدية وحقوق الإنسان، واختارت كلا من لبنان والسودان بسبب ارتفاع نسبة الإعاقة نتيجة الحرب الأهلية، والمغرب بسبب ارتفاع النسبة نتيجة حوادث الطرق. واثناء وجودها في مطار القاهرة حتى تصل إلى السودان، قابلتها إحدى عاملات النظافة المصريات، وعندما علمت وجهتها استنكرتها قائلة «سوف تأكلك التماسيح» فالمخيلة عن هذه البلاد أن التماسيح تجوب الطرقات، أما في المغرب فقد تمت سرقة حقيبتها، وأكثر من شخص مغربي أكد لها إن عُمال المطار يقومون بذلك، ويبدو أن (الإعاقة) الحقيقية تكمن في السلوك والمعرفة المغلوطة عن البلدان الأخرى.

لن يغفر لهم الحصول على كأس العالم

ذهبت الشايب إلى فرنسا في 1998 العام الذي حصل فيه المنتخب الفرنسي على كأس العالم، وكانت هناك آراء أو آمال تتعلق بمعاملة أفضل للمهاجرين، فالمنتخب معظمه من المهاجرين، لكن المواقف التي طالعتها كشفت الوجه العنصري والحقيقي لفرنسا، من تفتيش وإهانة لمغربي في الأتوبيس، أو تعنيف سائق حافلة لامرأة عربية وطفلتها، وأخرى أصبحت جدة، أولادها وأحفادها من مواليد مدينة النور، لكنها انتقلت إلى الجنوب على أمل أن تلقى معاملة جيدة كإنسان، لكن لا جدوى.

وحتى لا نتهم الغرب فقط بالعنصرية، ولا نزيّف الحقائق ونرى أنفسنا دائماً أبرياء وأطهار، تشير الشايب إلى زيارتها إلى الكويت في 1994، وكيف تم تحذيرها من عدم السير في الشارع واستخدام السيارة حتى في أقصر الطرق، فالصيدلية على بُعد أمتار من الفندق الذي نزلت فيه، لكنها قطعت المسافة سيراً، فتوقفت السيارات وتعرضت إلى المعاكسات والمضايقات، فالجميع يستخدم سيارته في هذا البلد الصغير، ولا يسير على قدميه سوى العمالة من شرق آسيا، وهن متواضعات الجمال فلا يأبه لهم أحد، لكنها امرأة مختلفة ولا تبدو من صِنف هؤلاء، فحدث ما حدث.

اسمه رودجر

كانت منيرة تعمل ليلاً، وكان هناك سائق يقلها من مسكنها إلى العمل، وكانت دوماً تسمع كلمة (رودجر) مع كل سائقي الأجرة بمجرد ركوبها السيارة في نهاية المكالمة مع مكاتبهم، بأن الراكب قد وصل أو بدأت الرحلة أو ما شابه ـ لم تكن هناك موبايلات وتطبيقات وسائل مواصلات وقتها ـ وهنا .. انفجر السائق في الضحك، موضحاً لها أن كلمة (رودجر) تعني دورك في الكلام مع محدّثه على الهاتف، بمعنى (حوّل) كما في أجهزة اللاسلكي.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي