زنازين الموت: عن عفاريت وشياطين مدينة الموصل

2023-07-13

محمد تركي الربيعو

على الرغم من مرور سنوات على هزيمة تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، إلا أنّ حكايا ما فعلوه في حياة الناس والمدن التي حلّوا بها لم تُجمع بالشكل الكافي. فالتنظيم الذي سيطر على مدن كبيرة، بدعوى نصرة السنة وغيرها من الحجج، تحوّل مع مرور الأيام إلى كابوس يومي في حياة مئات الآلاف، وذلك في ظل القوانين والإجراءات والخوف الذي فرضه. وفي ظل تنفيذه للقتل اليومي في الشوارع بدعاوى لا تعدُّ ولا تحصى. وتعد مدينة الموصل واحدة من أكثر المدن التي شهدت إجراءات يومية قاسية، لم تقتصر على فترة التنظيم فحسب، وإنما أيضا ما تبع ذلك من معارك. التي أدّت إلى هدم قسم كبير من المدينة. وربما حظي هذا الجانب باهتمام وسائل الإعلام والمحللين السياسيين، لكن في المقابل ما تزال حكايا الأهالي مع التنظيم مجهولة ومهمّشة.

في هذا السياق، تشكِّل مذكرات محمد عبد الله العطار أحد مواطني مدينة الموصل، «زنازين الموت» الصادرة عن دار سطور، بوابة يمكن من خلالها التعرّف على يوميات أهل الموصل القاسية في زمن تنظيم «داعش».. مؤلف المذكرات هو باحث حاصل على الدكتوراه في الفقه الإسلامي، عمل خطيبا في عدة جوامع في الموصل منذ عام 2006، كما يعمل عطاراً. وسيروي، في هذه المذكرات، تجربته كسجين معتقل في زنازين «داعش» في المدينة في عام 2014 بعد سيطرة التنظيم عليها.

لحظة ما قبل ظهور العفاريت

تحاول المذكرات في فصولها الأولى القول بأنّ ما جرى في الموصل لم يكن سوى امتداد لتغيرات في الخريطة السياسية والدينية، أخذ يعيشه العراق بعيد عام 2003، ولذلك يقترح العطار، وقبل الخوض في الحديث عن تجربة السجن، العودة بنا قليلا إلى تفاصيل تتعلق بحياة المساجد داخل مدينة الموصل بعد عام 2003. سيلاحظ القارئ، في هذه التفاصيل، أننا أمام مشهد معقد ومركب.

كان العطار يعمل في أحد المساجد، وفي أحد الأيام بعد صلاة العشاء سيخبره بعض المداومين على الصلاة في الجامع برغبتهم في تعيين شاب حارس للجامع، تكون مهمته تنظيف صحنه وحمايته والنوم فيه، لكن الحارس لن يكون مجرد شخص عادي، وإنما ستكشف الأيام أنه عمل سابقا ضابطا في الجيش العراقي، وأنه دخل الجامع من باب محاولة الجماعات السلفية السيطرة على كامل جوامع المدينة، ومعرفة أنشطتها، المفارقة أيضا في هذه القصة، أنّ الحارس سيكون لاحقا أحد السجانين في زنزانات «داعش». يروي العطار بدقّة عشرات القصص التي تُظهِر كيف أخذ نفوذ الجماعات المقاتلة الدينية ينمو مع مرور الأيام في المدينة. وبالتالي فإنّ لحظة صعود «داعش» في المدينة لا يراها الراوي ناجمة عن لحظة مباغتة، بل جاءت تعبيرا عن تطوّر أخذت تشهده المدينة وعدد من المناطق السنية في العراق. وقد لاحظ السوسيولوجي العراقي الراحل فالح عبد الجبار، في كتابه «دولة الخلافة… التقدم إلى الماضي» هذا المخيال السني السلفي. وإن كان قد ربط هذا التحول بالأحداث التي عرفها العراق منذ عام 1991. لكن ظهور (الدولة اللا حامية) في المقابل، بعد الغزو الأمريكي للعراق، التي قامت وفق ما يشير إليه الجبار باعتقال وتعذيب الكثير من أهالي المناطق السنية (الموصل) بدعوى الإرهاب، كانت تدفع أهالي الموصل وسنّة العراق إلى البحث عن المنقذ. وقد توقعوا قدوم المنقذ مع اندلاع ثورة في المناطق السنية بقيادة شيوخ عشائر وضباط وبعثيين سابقين. وكان من المفترض أن تكون قوات الدولة الإسلامية كتيبة من كتائبها، لكن الذي حدث أنّ السلفيين الجهاديين سيطروا على هذه المناطق، ولذلك سيلاحظ المتتّبع للحوارات التي نشرها العطار بينه وبين قادة الجماعات الإسلامية و»داعش» لاحقا في السجون، أنّ «داعش» تعكس في بعض تفاصيلها وخطاباتها حالة الدولة الفاشلة في العراق، ولاسيما السياسات الطائفية التي اتّبعها نوري المالكي أثناء حكمه للعراق. لن تمر سوى عدة أيام على دخول التنظيم، حتى بدأ بملاحقة كل من كان يعمل من أهالي الموصل في الحكومة العراقية. وعلى الرغم من أن كاتب المذكرات لم يكن عاملا في هذه المؤسسات، بيد أنّ نشاطه في العمل الدعوي الديني (خطيب جامع) ورفضه تكفير الشيعة على المنبر، بعد طلب التنظيم من كل شيوخ الجوامع القيام بذلك، كان كفيلا باعتقاله ليخوض واحدة من التجارب المرعبة.

قصص مئة سجين وسجين

سيجد أبو مؤمن (الراوي) نفسه بعد عدة أيام من الاعتقال المؤقت، في أحد سجون «داعش». سيروي لنا بعض التفاصيل عما جرى بينه وبين سجاني «داعش» التفاصيل التي دونها بلغة عراقية محلية خشنة (تظهر قساوة المشهد). لكنه لن يتوقف كثيرا عند يومياته داخل السجن، وإنما سيقرّر في معظم فصول كتابه الحديث عن قصص من شاهدهم في هذه التجربة المؤلمة، ولذلك يحسب لهذه المذكرات أنها ستكون بمثابة شاهد، ليس على قصة شخص واحد فحسب، بل على حكاية المجتمع الموصلي مع التنظيم نفسه. وربما في اختيار طريقة التدوين هذه ما يذكرنا ببعض المذكرات، التي ركزت أيضاً على تدوين شهادات عن رفاق السجن. وأذكر هنا مثلا مذكرات الأكاديمي الإيراني بهروز قمري في سجون إيفين الإيرانية بعد الثورة الإسلامية 1979، والتي تحدث فيها عن قصة 12 سجينا رافقوه في السجن قبل أن يلاقوا حتفهم. ونرى الشيء ذاته مع العطار، الذي يروي لنا قصصا عديدة ومؤلمة عن شباب وشيوخ وأطفال دخلوا سجون داعش وعانوا الأمرين.

من بين من سنتعرف عليهم في الزنزانة دحام أبلحد، رجل مسيحي اعتقله عناصر داعش لأنه لم يهاجر، ولم يوافق على دفع الجزية. لكن تبقى النفس، كما يقال، أغلى من كل شيء، لذلك سيقرر أبلحد الأخذ بنصيحة العطار وإعلان إسلامه أمام عناصر داعش، بما يسمح له بالفرار.

من بين من سنتعرف عليهم في الزنزانة دحام أبلحد، رجل مسيحي اعتقله عناصر داعش لأنه لم يهاجر، ولم يوافق على دفع الجزية. لكن تبقى النفس، كما يقال، أغلى من كل شيء، لذلك سيقرر أبلحد الأخذ بنصيحة العطار وإعلان إسلامه أمام عناصر داعش، بما يسمح له بالفرار. في زاوية أخرى يقف الشيخ أكرم عبد الوهاب من أكابر علماء الموصل سجينا ذليلا. وهناك السجين صدام، الذي عمل سابقا في مهنة القوادة قبل أن يتوب في السجن بعد ما لاقاه من تعذيب، لكن صلواته اليومية لم تشفع له ولاقى حتفه. وهناك قصة الضابط العراقي وزوجته، اللذين اعتقلا برفقة ابنهما الصغير، وبعد دخولهما بساعات أخذ الزوجان وقتلا، في حين ظل الطفل يبكي لساعات في السجن وهو يبحث عن أبويه. وهناك عشرات الأشخاص والقصص الأخرى التي حرص المؤلف على تدوينها بعد خروجه من السجن. والمؤلم أن بعض هؤلاء السجناء لاقوا حتفهم في حفلات يومية كانت تجري ليلا ويقودها شخص يدعى أبو برزان. كان هذا الرجل يدخل كل ليلة تقريبا برفقة عدد من عناصر داعش يحمل في يده قصاصته الورقية، وبدخوله يحل الصمت في القاعة، ليبدأ بعدها بذكر بعض الأسماء، وهنا يخرج من ذكر اسمه من بوابة الزنزانة، ليختفي بعدها إلى الأبد.

ليلة الإيزيديات

من بين القصص المرعبة التي يرويها المؤلف، قصة إحدى الليالي (ليلة التاسع من شهر آب/أغسطس 2014) وبينما هم جالسون ينتظرون دخول عناصر التنظيم لسحب سجين آخر وإعدامه، فإذا بالعناصر يدخلون بسرعة إلى القاعة ومن «ثم يسوقونهم كالأغنام إلى قاعة أخرى» دون أن يعرفوا السبب. وبعد جمعهم بلحظات قليلة سمعوا أصوات بكاء أطفال وصراخا وأصوات نساء، وإذا بهم قد جلبوا مجموعة كبيرة من النساء والأطفال. سيعلمهم أحد عناصر داعش أن هؤلاء النسوة هن «الأيزيديات اللواتي أتوا بهن من سنجار». لكن المشهد لن يتوقف هنا، فما هي إلا بضع ساعات حتى تم توزيع قصاصات على الفتيات تحمل أرقاماً معينة. ومن ثم أجرى عناصر داعش قرعة بينهم، والذي يسحب القصاصة التي توافق القصاصة التي على كتف الفتاة تعطى له سبية.. وهكذا سيروي لنا بمرارة مشهد ما بعد القرعة، وكيف أخذ مقاتلو داعش يجرّون سباياهم، وأولادهن خلفهن يبكون، وكأنه يروي قصة وحوش أو عفاريت من عالم آخر، أو أحد المشاهد من فيلم رعب. في المذكرات عشرات الحكايات غير المعقولة التي تجبرنا على إثارة أسئلة عن معنى كل هذا العنف، وإن كان التهميش والتعذيب الطائفي يبرّر كل هذه القسوة وصناعة الخوف.

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي