لعنة الباب!

2023-07-11

أسامة الأشقر

في حياة الاعتقال الطويلة تشكّل أبواب السجون المعادلة الأصعب والأحجية الأكثر تعقيدا، فالباب بالنسبة للأسير يمثل أحد أكثر التحديات جسامة وإرهاقا. منذ وصولنا لسجن نفحة الصحراوي في الجنوب الفلسطيني المحتل، شكّلت لنا أبواب هذا السجن كابوسا دائما ولم ينته. كان دخولنا لأحد الأقسام المعزولة والمقامة حديثا والمصمّمة خصيصا لقهر الأسرى والتنغيص عليهم، فقد قررت إدارة السجون أن تفرض إجراءات معقدة على الحياة اليومية، ومنها الدخول والخروج من وإلى الغرف، لأجل التوجه إلى دورة المياه أو الاستحمام، أو تناول الطعام. تفرض هذه الاحتياجات اليومية، طلب فتح الأبواب عدّة مرات يوميا، وهذا تحديدا ما عزز من حضور الباب في حياتنا.

فالباب هو الكلمة المقفلة المقفرة المغلقة المتعددة الأبعاد والمعاني، عند سماعها يترسخ في الذهن استخداماتها المتعددة التي نحتاج إليها أثناء الحركة والفعل الإنساني في الخروج والدخول، والفصل والوصل، والبعد والقرب، الحرية والاعتقال، الحركة والثبات، الانطلاق والركود. للباب استخدامات وأبعاد ونواح غير مدركة وهي مفصولة شكليا عن البال، غير أنه لا يدرك معانيها الأعمق إلا أسير تحولت ساعات عمره لدائرة لا تنتهي من أفعال الأبواب. في الأسر يفصل الباب بينك وبين أحلامك، ويفصل الباب بينك وبين أحبابك وأشقاء روحك ونصفك الآخر، الذي يموت كل لحظة اختناقا وشوقا ولعنة جراء هذا الباب. والباب حاجز قاهر لطموحاتك المقدسة، منذ عقود تنتظر الانتقال من حيّز الأوهام إلى حيز الحياة بنجاحاتها وسقطاتها. والباب يفصل بين عالمين متضادين، يفصل بين الأحلام الكبيرة حدّ الأوهام والتخيّلات، وواقع المقبرة المهجورة منذ عقود، والباب تجسيد لحقيقة ما يرغب الإنسان فيه، وما يستطيع تحقيقه، وهو الباب ذاته الذي يمنعك من التحليق في عالم الأمنيات، وهو الباب الجاثم على صدرك يذكرك بالمسافة اللامتناهية بين الحاجة والإلحاح.

الباب الأزرق الذي يعني لك شقاء غير منقطع الأوجه، وسعادة مشتهاة غير قابلة للتحقق، باب بزرقة الدم المطعون يقف منتصبا كخنجر في صدر الحرية، يقتل النور كل صباح ويكسو الشمس ظلاما دامسا طوال النهار. الباب المتوحش أبدا يرفض أن يغادر واقعك، فيُبقي الزمن متجمدا كساحة للموت مترامية الأطراف، تتلحف جثث قتلاها، كلما أغلق مجددا على أرواح تحيا بلا أمل وفي أحضان الثعابين. هو الباب الملعون في كلّ الذكريات، والمغضوب عليه في كل الأوقات. هو الفاصل بين الأرواح المعتاشه على الأمس البعيد، والمتقدة حماسة لغد يصعب تخيله أو الاقتراب من ثوانيه. لا يعلم أحد حقيقة أمر الباب في حياة الأسير ولن يستطيع، غير جثة تجرّ أنفاسها بصعوبة تنازل ثقل الكلمة وجمود معانيها على صدرها.

هل يدرك غير الأسير معنى السنوات المرهونة بتسلل الضوء من بين جنبات هذا الوحش الملقى على تفاصيل حياته؟ من يملك القدرة على تفكيك أذرع الأخطبوط الممتدة إلى أرواح الأسرى وثواني أعمارهم إلا من اكتوى بظلام هذا المسمى باب؟ هو الباب الذي يبقى يرافق أيام الأسير منذ انطواء الزمن خلفه ويرفض مغادرة وجهه ويتدخّل في أدقّ تفاصيل يومه، لعنة الباب ترافق الأسير في قضاء حاجاته الأساسية فغرفة التحكم الاستعمارية تراقب الأنفاس وأوقات دخول الحمام وساعات الإفطار ولحظات الأسى وأوقات الفرح المقتول، كلّها بين دفتي هذا الباب. يغتال ما يشاء منها متى يشاء، ويحرر القليل حتى يبقى شاهدا على تفاصيل الوجوه المكدسة في التراب. إرادة الباب وتوحّش الحارس، تجعل حياة الأسير مجموعة متلاحقة من الارتهانات اليومية البسيطة والكبيرة المؤجلة.

بابٌ أزرق مخرّم قليلا من الأعلى ومثبت بأطنان من الحديد الإسمنتي المسلح، كي يستمر في مصادرة الأرواح واحدة بعد أخرى. هذا الباب الأزرق هو الشقيق الأكبر للباب الرمادي الداكن والخانق، الذي لا يسمح حتى بالتنفس، ولا يستطيع منح شارة الدخول أو الخروج، ولا يبادر بأيّ فعل إنساني مهما كان بسيطا، فهو يمارس كل هواياته وألاعيبه كي يبقى يتلذذ في سحق الأرواح ومحاولة تدجينها.

إذا الباب بلونيه القاتلين له سلطة مخفية ومحسوسة على حياة الأسرى، فهو الحاضر أبدا في أحلامهم ومنهم من ينفجر أثناء نومه لأن الأبواب تنام على صدره وتصادر أحلامه، وينسحب ظلّ الباب حتى أثناء غيابه وغياب ذكره وذكر ألوانه. الباب ولعنته حلقتان متواصلتان مترادفتان ثابتتان مستمرتان قاتلتان، غير قابلتين للتفكك، وهما الأداتان المتحكمتان والمسيطرتان طوال سنوات الموت الاعتقالي.

الأبواب الزرقاء: هي أبواب الزنازين التي يحتجز فيها الأسرى، وأعداده أكبر بكثير من الأبواب الرمادية.

الأبواب الرمادية: هي أبواب زنازين التحقيق المحددة في مجموعة من مراكز التحقيق التابعة لجهاز المخابرات الصهيوني «جهاز الشاباك.

أسير فلسطيني محكوم بثماني مؤبدات و50 عاما!








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي