إزايا برلين.. في تاريخ الأفكار

2023-07-07

ضمن "سلسلة ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدرت النسخة العربية من كتاب "ضد التيار - مقالات في تاريخ الأفكار" للفيلسوف والمؤرخ الروسي البريطاني إزايا برلين، بتحرير هنري هاردي، وتقديم روجر هوشير، وترجمه إلى العربية محمود محمد الحرثاني.

يتضمّن الكتاب مجموعة مقالات جمعها هاردي ثم أفرد كلًّا منها في فصل، سبقها تمهيد كتبه مارك ليلا وتلاها ملحق برسائل وجّهها إلى جان فلود وألان ج. ب. تايلور وسيدني هوك وجوزف ألسوب، أثارت نقاشًا حيويًّا حول نيكولو مكيافيلي واعتباره من دعاة التعددية، ورسالة إلى عمر الحليق حول صهيونية موشيه هِس وموقفه من العرب الفلسطينيين كشفت رأي برلين في هذا الشأن، ورسالته إلى سيدني مورغنبيسير حول الاختيار الحر، وكذلك الرسالة التي وجهها إليه ديفيد سيسيل وتتضمن حكمًا دافئًا على رواية برلين عن بنجامين دزرائيلي جرت مشاركته على نطاق واسع، وهي جميعًا رسائل ألقت مزيدًا من الضوء على المقالات محل الدراسة.

يتحدث الفصل الأول عن أعمق التحولات في الأفكار العامة مع ثورة المفكرين المتمرّدين على التقاليد العقلانية والعلمية المركزية في الغرب، في إيطاليا بدءًا ثمّ في العالم الناطق بالألمانية؛ وهم الذين نذر برلين بعضًا من أرفع مقالاته لتيارهم الذي غيَّر العالم، والذي تفرّعت منه تيارات الرومانسية الأوروبية والقومية والنسوية والتعددية ... وأخيرًا الوجودية. خارج هذه المجموعة، وقف المزدرون للدراسات التاريخية والإنسانية، والمحاولون دمج جميع أشكال المعرفة في نوع واحد، والقائلون بفرضية الطبيعة الإنسانية الثابتة في الأزمنة والأمكنة، كما اعتبر أفكار عصر الأنوار الفرنسية تشويهًا للحقيقة.

يستنتج برلين في الفصل الثاني أن مكيافيلي أثار لنحو أربعة قرون خلافًا حادًّا بين الباحثين المتحضرين، وأرهق الوعي المسيحي والليبرالي باستحداثه نظامًا بديلًا من المبادئ الأخلاقية السائدة، وأنه كان أولَ مفكرٍ يلقي بالشكوك على صحة البنى الأُحادية ويستبعد فكرة فصل الأخلاق عن السياسة، وينظر أبعد من نظر الأخلاق المسيحية أو الرواقية أو الكانطية أو النفعية المهتمة بالفرد، بل كان ينظر إلى تقليد أقدم يعود إلى المدن Polis. وكان يؤمن بقانونَين أخلاقيَين لا بد من اختيار أحدهما، وكان هذا أكبر إنجازات مكيافيلي.

خصص الفصل الثالث للحديث عن تداعيات الهوة التي يصفها بأنها "لا يمكن جَسْرُها" بين العلوم الطبيعية والدراسات الإنسانية، وللدعوة إلى الرجوع عن الفكرة المثالية القائلة بأن التطور يسير بانتظام في جميع فروع المعرفة الإنسانية.

يرى برلين، في الفصلين الرابع والخامس (ويتناولان مفهوم فيكو للمعرفة ولمثالية التنوير)، أن للطبيعة البشرية افتراضات عدة، وأن علينا قبول أقل تفسيراتها. وقد كشفت مقالاته في تاريخ الأفكار الأشكال الأعمق للمعرفة الذاتية الجمعية التي تنشأ من تفاعل البشر تاريخيًّا بعضهم مع بعض، ومع ماضيهم، ومع غيرهم من الأمم والثقافات ومع بيئتهم. وهو تفاعل لا يطرأ، في رأيه، وفقًا لمبادئ قبْلية أو قوانين إمبريقية، بل من دون ترتيب أو تنبؤ مسبق، وباستجابة مخلوقات عاقلة تُواجَه بالمشكلات فتجترح لها الحلول، وذلك هو المعنى الخاص الذي كان فيكو أول من فهمه.

ويشير الفصل السادس إلى أنه بعد موت شارل مونتسكيو انتشرت عقيدته الليبرالية في أوروبا، باستثناء دولها الدكتاتورية، وفي بعض دول آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، وفيها مناداته بفصل السلطات الذي شابَهُ خطأٌ تمثَّلَ في زيف تخيُّلِة خصائص نظام سيسود في إنكلترا، كما أنه رأيٌ لم يكن عمليًّا في فرنسا في أثناء الثورة. وعلى الرغم من تبنّيه بإخلاص في الولايات المتحدة، لم تكن نتائجه موفّقة؛ بسبب المفاهيم المحافظة في تعاليمه مقابل الإصلاح المتعجل. أما ليبرالية تعاليمه، فقد تراجعت حتى أصبحت مبتذلة في أدبيات مَن بعدَه، كما باتت دراسته المقارنة للمؤسسات الإنسانية على أيديهم "مهنة" نظَرَ ممارسوها إلى تراثه باحترام ولكن لم يتعدوا ذلك. إن كل من جاؤوا بعد مونتسكيو ثوَّروا العقول بأفكارهم، وتركوا الناس يتذكرونه مؤلفَ كتاب نُظر إليه يومًا باعتباره فاتحة عصر جديد، وخلال قرن تحول أحفورةً في تيار فكري مات وانتهى.

ويناقش الفصل السابع أفكارَ أشدِ المناهضين لمعايير يوهان هامان، الذي كان في شبابه أحد أعمدة حركة التنوير ثم انتقل إلى مهاجمة التقليد العقلاني وقيمه بعنف، متسلّحًا - مع رفيقه فريدريش جاكوبي - بمعتقدَين مركزيَين لهيوم؛ فهامان رأى أن النظريات العلمية لا تثمر معرفة مسلَّمًا بها، وأن المعرفة لا تتاح إلا عبر الحواس والفطرة، مسمّيًا هذه الرؤية "الإيمان"، وأعلن عدم اهتمامه بسؤال الفلسفة "ما العقل؟" وإيمانه بسؤال "ما اللغة؟" لأنها مصدر مغالطات العقل، كما وجَّه نقدًا يشبه نقد فلاسفة اللغة العامية اليوم ضد الوضعية الجديدة التي جاء بها راسل وتلاميذه.

يتحدث الفصل الثامن عن مذكرات هيرزن، وما حوته من نشاطه الثوري في أوروبا وروسيا منتصف القرن الثامن عشر، وكيفية تنقله وأولاده من منزل إلى آخر في لندن وضواحيها، ثم التحاق أقرب أصدقائه، نيكولاي أوغاريف، به على إثر مغادرته روسيا بعد وفاة نيقولا الأول، وتأسيسهما معًا دورية نجم القطب باللغة الروسية للتحريض ضد النظام الإمبراطوري الروسي.

يطرح الفصلان التاسع والعاشر، عن موشيه هِس وكارل ماركس ودزرائيلي، أن فكرة "الاحتياجات الأساسية للبشر" تعني الانتساب إلى جماعة محددة المعالم ومتميزة بلغة وتقاليد وذكريات تاريخية وأسلوب حياة بها يتمتع بالاعتراف غير المقيد، ويُبعد عن نفسه شعور تفوُّق الآخرين. وهنا يرى برلين أن اليهود الذين تحرروا في أواخر القرن الثامن عشر يمثِّلون بردايمًا للبحث: بين انعتاق كثيرٍ منهم من الغيتو الضيِّق الذي كانوا يحبسون أنفسهم فيه وهروبهم إلى عالم غير اليهود مسقطين ماضيهم من دون رهق ومندمجين بسلاسة في بيئتهم الجديدة، وبين مَن دفعهم إحساسهم بالرابطة الحميمة مع الذات إلى استمرار محاولاتهم بشتى الوسائل إيجاد حلول لمشكلات الهوية لديهم، وهؤلاء - يخبر برلين – قد أظهروا حنقًا واحتقارًا ضد الغالبية، أديا بدورهما إلى انحرافات عصابية ساهمت فيها شخصيتان بارعتان خلاقتان هما ماركس ودزرائيلي.

في الفصل الحادي عشر، يتناول برلين ما سماه "سذاجة فيردي"، ملتمسًا من القارئ ألا يفهم التعبير بمعناه المعتاد، فذلك غير معقول في حق جوزيبي فيردي، ولكن بالمعنى الذي استخدمه فريدريش شيلر (كان الملهِم لفيردي في أعماله)، الذي فرّق بين الشعراء الذين لا يشعرون بانفصال مع وسطهم ويوصلون ما يعاينونه بالنظر لا إلى هدف سامٍ، وبين الشعراء شديدي الوعي بهذا الانفصال، الذين يتخذون زاوية جانبية ينظرون ويتأملون منها أعمالهم، هؤلاء يسميهم شيلر ساذجين. فأسخيلوس وميغيل دي ثيربانتس سابيدرا ووليم شكسبير وأوسيان وأبطال الحركة الرومانسية الذين شجبتهم المدرسة الكلاسيكية لانفلاتهم وجموحهم، ساذجون، أما نماذج الحركة الكلاسيكية، من أمثال يوريبيدس وفيرجيل وهوراس وبروبيرتيوس وشعراء عصر النهضة الكلاسيكيين الجدد، فهؤلاء سماهم شيلر "عاطفيين"، لا تسفر آثارهم عن سرور واطمئنان ولكنها توتر وصراع مع الطبيعة والمجتمع، وعصاب نتيجة لتوتر العصر الحديث بما فيه من أرواح متعبة وشهداء ومتعصبين ومتمردين ودعاة غاضبين، مخربين ومتنمرين، لم يقدِّموا السلام وإنما حملوا السيف.

الفصل الثاني عشر عن جورج سوريل، يتناول عصر الولاءات المطلقة التي عانى في سبيل التصدي لها هيرزن وهردر، اللذان أفزعتهما رؤية طبقة رجال أشداء ذوي أهداف مفرطة في بساطتها إزاء غايات الحياة، وأعدادهم كبيرة، وقوة نفوذهم متينة متقنة السيطرة والتنظيم، يفرضون تصوراتهم الهزيلة على مجموعة من الكائنات البشرية أكثر منهم إبداعًا وتنوعًا وثراءً وهشاشة. ويميل برلين إلى اعتبار أفكار سوريل في ما يخص الكرامة الإنسانية وثيقة الصلة بعصرنا، ويُظهر صاحبَها أكثر تقدميةً من مجايليه، بعد رفضه معتقدَي الخلاص الإغريقي والعدالة الإلهية اليهودي - المسيحي، ونظر إلى العلم الطبيعي لا بوصفه مفسرًا طبيعةَ العالم بل سلاحًا في يد الإنسان ضد القوى الطبيعية العدائية.

في الفصل الثالث عشر، يعالج برلين، في مقالته عن القومية، الشعور بالاختناق والجفاف الروحي الذي يشعر به الشباب في الحضارات التكنولوجية الغربية، الذي كان هردر أول من أشار إليه، ثم مارتن هايدغر ويورغن هبرماس ومدرسة فرانكفورت.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي