فوّاز طرابلسي والبحث عن الذات في السيرة

2023-06-27

نبيل مملوك

في كتابه «صورة الفتى بالأحمر» (الصادر عام 1997 عن منشورات رياض الريّس) حاول فوّاز طرابلسي (1941) أن يكتب سيرته مع الآخر ومع ذاته، وأن يجد من خلال مرويّاته فضاء مكانيّا جامعا لكلّ المتغيّرات السريعة والدراماتيكيّة في بعض الأحيان، إلا أنه سرعان ما وجد نفسه مؤرخّا ومعلّقا على جملة من الأحداث والحقب، ما دفعه إلى أن يتقدّم نحو المتلقي بأشكال مختلفة، بدءا من المؤرخ ومن ثم الأديب ووصولا إلى السارد.. ليكون السؤال أين صارت سيرة الذات؟ وما دور المكان والكتابة في ترسيخ الهويّة في أذهان المتلقّين؟

الفضاءات المكانية والإفصاح عن السيرة

بدأ طرابلسي الكتاب بالحديث عن نشأته وهي بداية كلاسيكيّة نجدها في معظم كتب السيرة، لكنّ المفارقة أن الكاتب سرعان ما تخلّى عن التفصيل والإطناب لنجده مناضلا منذ الصغر أو مشروع مناضل تحديدا حين انتقل إلى المدرسة البريطانية البروتستانتية، وبدأ الوعي الذاتي يشكل جرحه في ما بعد، إثر نكسة حزيران/يونيو 1967 فتتجلّى من خلال ذلك سيرة فوّاز طرابلسي الديناميكي الرحالة من بلد الى آخر من بيروت إلى مانشستر إلى عمان إلى اليمن وغيرها. هذا التشتت والترحال أفقد السيرة وصاحبها القدرة على توحيد الفضاء المكاني الملائم، لرسم تقليدي لملامح رجل سيغدو من أهم المؤرخين والمترجمين والمناضلين في صفوف منظمة العمل الشيوعي خصوصا، والحركة الوطنيّة عموما.. هذا العجز السرديّ شكّل ضفّة كلاميّة أنقذت السارد وأربكته في آن، ليجد المتلقّي نفسه ينتقل من الحديث عن فرد إلى توثيق مرحلة ومسار أفراد بشكل تراتبيّ ومعقول بالنسبة لمسار التاريخ السياسي العربي واللبناني، فالفصول كلّها مرتبة وفقا للحدث وتراعي نشأة كاتبها، ما وضعنا أمام سيرة مرحلة، أو مرحلة لا سيرة فرد.. وبالتالي فإنّ تعدّد الفضاءات المكانية والزمانية، فضلا عن تجنّب طرابلسي المضمرة في الحديث بلغة الأنا، دفعته للعودة نحو الذاكرة الجماعية المقبولة لدى الجميع – خصوصا خلال حديثه عن فترة تأسيس المنظمات والانشقاقات الحزبية، وتشكل الحركة الوطنية ومنظمة العمل الشيوعي ـ متفقّدا دور أصدقاء المرحلة محددا ليظهر بين الفصل والآخر والمقطع والآخر كأنّه ضيف المراحل، وعدسة تلتقط المشاهد وتعلّق حول طبيعة المشهد فقط لتتجلّى بذلك السيرة على أنّها تأريخ ذاتيّ مكثف من قرب..

الأشكال الكتابيّة وعلاقتها بالسيرة

أراد صاحب كتاب «غرنيكا بيروت» أن يقدّم السيرة كما يريدها هو، دون إطناب أو تفصيل، وربما هذا الإيجاز أقلها في الشكل يجعلنا نعود إلى ما قاله أدونيس حول الهويّة وتشكلها على أنّها النظرة إلى الأمام لا إلى الخلف، كما عرّفت قديما فبرزت عدّة أشكال كتابيّة من اليوميّات (سرد ما حدث خلال دخول محمود درويش المستشفى بسبب أزمة قلبيّة مثلا دون الحصر) والجنوح نحو السرد الأدبي الأشبه بالقصّ (خصوصا في فصل المواصلات) لكن ما وقع طرابلسي في شركه هو التطرق إلى الذات من خلال ضمائر مختلفة، المخاطب والغائب أحيانا، فضلا عن وضع بعض الأسامي والإشارات دون شرحها أو تفسير دلالاتها، ما أفرز تخلخلا في عملية التلقي.. ولعلّ هذا التنوع النصيّ يقودنا إلى تأويلين: الأول يختص بالتعدد الصوتي الذي وظفه ميخائيل باختين في معرض حديثه عن منهج التأويل النقدي، الذي إن طبقناه هنا سنكتشف أنّ طرابلسي سيبحث عن ذاته حتّى يتقاعد من الكتابة، أو التعليق على الأحداث. والثاني المختص بنظريّة القراءة والتلقي، حيث يمكننا اعتبار صاحب كتاب «حرير وحديد» يتحدث بأشكال كتابية مختلفة ليكسر الرتابة النصيّة، أو ليهرب من الإطناب الذاتي نحو سيرة الآخرين التي تكمل سيرته…

في قراءة بانوراميّة دون التطرّق لجوهر الأحداث والتصاقا بالنص أكثر، نكتشف أنّ سيرة فوّاز طرابلسي هي بطاقة حمراء في وجه الفتى الذي يحمل الكثير ممّا لم يقله خوفا من الإطناب ومطبّاته، ليكون السؤال، هل الغير يستطيع كتابة سيرنا؟ أم يبقى الأنا هو القلم الأحاديّ لتفصيلها؟

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي