"خُزامى" سنان أنطون: محاولة للتعافي من الأوطان

2023-06-26

سومر شحادة

رواية "خُزامى" للشاعر والروائي العراقي سنان أنطون (1967) سجالٌ مفتوح مع الذاكرة؛ يُطلُّ على قسوة الانتماء إلى وطن كالعراق، وقد شتّته الحاكم المستبد والمحتلّ الغازي، ومعهما الحروب الطويلة. ويطلُّ على اللجوء، تجربةً يُصارِعُ أبطالُها العراقَ في داخلهم، أكثر ممَّا يعانون صعوبات "الاندماج". بهذه الصورة، فالذاكرة مسرح لسجال أكثر مضاءً بين مريض الزهايمر الذي يُريد أن يتذكّر، وبين الجندي الهارب الذي صُلمت أذنُه في السجون العراقية، ويريد أن ينسى.

في مطلع الرواية نجد أحدهم تائهاً في بروكلين، يريد أن يرجع إلى العراق. إلى منزله. ويطلب ممّن يُريد مساعدته؛ "أريد أروح لبغداد". منذ البداية شدَّ أنطون القوس، وتركه مشدوداً على امتداد صفحات الرواية، ليطلقه في الصفحات الأخيرة على مفارقةٍ؛ جاءت بالعراق إلى أميركا. بما يمثّله العراق في ذاكرة الشخصيات من استحالة الهروب، واستحالة التعافي. وهو بهذا، انتماء أشبه باللعنة، لبلدٍ يشبه الذكرى التي ما من سبيلٍ إلى الإمساك بها، إلّا في جعلها مادّة للسرد.

وهذا عهد الروائي العراقي في مُجمل أعمالهِ التي يعود فيها إلى العراق. سواء في روايته الأُولى "إعجام" (2003) التي تحدّثت عن عراق قبل الاحتلال، أو في الروايات التي تلتها "وحدها شجرة الرمَّان" (2010)، و"يا مريم" (2012)، و"فهرس" (2016)، حيث ظهر العراق مادّةً سرديّة أعاد أنطون نَسْجها في تآلفٍ داخَلَه بطشُ الحاكم وعنف الاحتلال وإقصاء الإرهاب. لكنْ عَبْر هذا التآلف المدمِّر؛ يظهر الأسى العراقي خالصاً في رواياته. وهو أسى إنسان أراد أن يهرب بوطنه، لا منه، ولم يكن بمقدوره أن يهرب إلّا بالإطلال على ذاكرة أبعد، فيها الحبّ والعائلة والطفولة والأصدقاء الذين شملهم الزمن العراقي بالموت.

رواية سنان الصادرة حديثاً عن دار "الجمل" مصوغة بالمادّة نفسها، مكانها أميركا، وفضاؤها العراق. وهو عراق تريد إحدى الشخصيات أن تستعيده، وتُقاسي مرارة النسيان. فالعراق بالنسبة إلى الطبيب العراقي، كان البلد الذي عرف فيهِ الحبّ وأنشأ فيه الأولاد قبل أن يأخذ قانون "اجتثاث البعث" من جهة، والتنظيمات الدينية المتشدّدة من جهة أُخرى، عِراقه وزوجته. لكنه بالنسبة إلى شخصية أُخرى، عراقٌ لا مَناص من محاولة نسيانه. إذ كان بالنسبة إلى الفارّ من الجندية؛ البلد الذي عرف فيهِ القسوة، وبَتْر الجسد. إذاً، العراق الذي يكتبه صاحب "كما في السماء" ليس عراقاً واحداً، بل هو وطن متفاوت؛ شمل بدفئه طينة من أبنائه، وقهر بوحشية طينة أخرى. ومن هذا النقيض المترامي، بنى أنطون شخصياتهِ التي تراوح على برزخٍ قاهر من القيم والذكريات والأفكار.

مادّة أنطون بصورة دائمة هي الذكريات التي تحلُّ مكان المستقبل، بسبب فقد المكان. وهو يستدعي جماليات المكان المفقود، يستدعي الكثير من الأغنيات العراقية التي بدا أنَّها تعصف في ذاكرة مريض الزهايمر، كما تعصف رائحة عطر الخُزامى. كما تعصف ذكرياته كطبيب في مستشفيات الطاغية. حيث يمكن للطبيب، أن يتحوّل تحت الإجبار، إلى قصَّاب؛ وربما هذه الذكرى بالضبط، هي التي أودت بذاكرة الطبيب. ومع ما تبدَّى لنا من حاجته إلى التذكّر، يلتقط القارئ حاجته إلى النسيان أيضاً.

الجندي والطبيب ليسا على ذلك النقيض الظاهري. فكلاهما يريد أن ينتخب من ذاكرته؛ عراقاً أليفاً؛ عراقاً محبوباً؛ عراقاً يُمكن أن يصلح بلداً للانتماء. ما نراه لدى الجندي، الذي ابتكر سيرة ذاتية متخيّلة لحياته بادّعائه الانتماء إلى إحدى جزر الكاريبي. وسُرعان ما يسقط ادعاؤه أمام الحبّ، وما إن يرى الفتاة التي يستطيع أن يكون معها على حقيقته، حتى يشهر انتماءه إلى العراق.

الحكاية حزينة، لأنَّها تصوِّر مساراً مُربكاً من محاولات التعافي من أوطان ليس نسيانُها حلّاً، ولا تأكيدها حلّاً. وأنطون الذي خرج من العراق عام 1991، وأكمل دراسته في أميركا، وحصل على الدكتوراه في الأدب العربي من "جامعة هارفارد"، وله إسهاماته في ترجمة الشعر العربي إلى الإنكليزية، يعرض في "خُزامى" اقتراحاً للتعاطي مع انتماء الطفولة والشباب؛ بأن يجترح المرء من الذاكرة الحقيقة، ذاكرة قوامها الأغاني، قوامها لحظات الحبّ، قوامها الناس الطيبون الذين خضعوا لظرف الحرب، رحيلاً أو عيشاً لتفاصيلها. وهما في أدبه أشبه براكبي قطار، يلتقيان في محطة، وكلٌّ مسافرٌ في اتجاه، أحدهما عائد إلى العراق من غير رجاء بالمغادرة، والآخر مسافرٌ منه من غير رغبة في العودة. وبينهما ينمو عراق مختلف عن الذي نراه في شاشات الأخبار، قوامه حنين مستبدّ، ولوعة موحشة. هي لوعة الفَقْد، وإدراك استحالة أن يوجد للمسافرين وطن خارج المحطّة، خارج الرواية، خارج حرقة اللقاء العابر.

إلى جانب الشخصيّتين العراقيّتين، سامي الطبيب وعمر المُجنَّد، اللذين استخدمهما أنطون كي يعرض حكاية الذاكرة في مسلكيها؛ استدعاءً للماضي، أو نسفاً له؛ الشخصيات التي تحضر في الرواية قادمة من عالمٍ متشابه، كالشاب بولندي الأصول الذي ساعد عمر في اللجوء بسبب قصص الحرب التي كان يسمعها في طفولته، من جدّه، عن الحرب العالمية الثانية. والمُمرضة التي تتخطّى صعوبات التعامل مع سامي، مريض الزهايمر، لأنَّ جدها بدوره عانى ويلات الحروب، واضطرّ إلى القتال في فيتنام. وهذه تفاصيل هامشية. اهتمّ صاحب "ليل واحد في كلّ المدن" بعرضها للقارئ؛ كما لو أنَّ المعاناة هي التي تخلق التعاطف الإنساني، وتدفع أحدهم كي يساعد الآخر.

 وليس من المبالغة القول إنَّ الرواية بدورها تقول هذا، وهي تعرض اقتراحها في التعاطي مع أوطان شائكة، وتصنع للتائهين خرائط من طبيعة أُخرى.

روائي من سورية

 بطاقة

سنان أنطون، شاعر وروائي ومترجم عراقي يعمل أستاذاً للأدب العربي في "جامعة نيويورك". أصدر روايات عدّة، هي: "إعجام" (2003)، و"وحدها شجرة الرمّان" (2010)، و"يا مريم" (2012)، و"فهرس" (2016)، و"خُزامى" (2023)، ومجموعة شعرية بعنوان "ليل واحد في كل المدن" (2010)، كما ترجم إلى الإنكليزية: "في حضرة الغياب" لمحمود درويش، و"مختارات" لسعدي يوسف، وله دراسة بعنوان "شعرية الفحش: ابن الحجاج والسخف" (2013).








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي