بروليتاريا الثقافة العربية

2023-06-25

خليل النعيمي

لم أكن أتصوّر أنني سأرى ذات يوم هذا المصير القاتم الذي وصلت إليه الثقافة العربية المعاصرة، حيث «صُنّاعها» لا يتوقفون عن بيض الكتب التي لا تضيف، في أغلبها، شيئاً على المألوف والمعروف. لكأن «مفهوم الكتابة» المجرّد، صار بالنسبة إليهم بديلاً عن «الحياة» وهو ما يبدو «نشاطاً» ثقافيّاً لا مجدياً. فالحياة العربية ليست بحاجة إلى مثل هذه «المفرقعات الأدبية» التي سيكون مآلها الإهمال والنسيان. رغم ذلك، لا تكفّ أعداد الكتب عن التكاثر بشكل مدهش، بعد أن غدت الكتابة مهنة لمن لا مهنة لهم، كأن الإبداع لم يعد بحاجة إلى معارف وتجارب وخبرات، ولا هو مرهون بالشغف والابتكار.

نتَذكّر، قبل سنوات، كنا في «حقبة ثقافية» تسود فيها «القصيدة العربية الواحدة» واليوم، نزعم أننا دخَلنا حقبة «الرواية العربية الواحدة» وليس الواعِدة. لكن، لماذا ترانا نتكلم عن «البروليتاريا الثقافية عربياً» ونحن ندرك أن ذلك سؤال ملتبس، وليس ثمّة إجابة «شافية» عليه؟ وما قيمة الإجابة، مهما كانت حصيفة، إذا كان أي جواب عمّا نسأل لن يكون كافياً، إن لم يكن، أصلاً، بلا معنى؟ ما يهمّنا، إذن، ليست الإجابة، وإنما ضرورة إثارة هذه «الإشكالية الثقافية المربكة» التي بدأت تتأسس بإصرار، وتتمركز من حولها جهود وعقود. نحن لسنا ضد حرية الإنتاج، حتى لا نقول حرية الإبداع، أياً كان مصدره، ومستواه، لكننا ضد التفاهة عندما تلبس ثوب الثقافة، لماذا؟ لأنها، عندئذ، تصبح خطراً اجتماعياً لا يجوز التغاضي عنه، لا بحجة حرية الرأي، ولا بحجة «كل عنز معلَّقة من كرعوبها». وأكثر من ذلك، لا يحق لنا أن نبحث عن أعذار، مهما كانت، عندما يتعلّق الأمر «بتصنيع فكر القارئ» كما يحدث حالياً عندنا. فالقارئ هو «مستقبل العالم» وليس الكاتب الذي يغمرنا بترّهاته. يحق لنا، بعد ذلك، أن نسأل: كيف بدأت تتفشى هذه «الحُمّى الكتابية» في ثقافتنا الراهنة؟ أيكون الدافع إليها هو كثرة الجوائز، والإمكانية السهلة، نسبياً، للحصول عليها، إذْ يكفي ألاّ يكون المنتَج الإبداعي عدائياً، أو محرضاً، أو متمرداً، أو «يسبح عكس التيار السائد» كما يقولون؟ أم أن لها سبباً آخر؟

نحن نعرف أن الثقافة، وبالتالي الكتابة، ذات طابع اجتماعي بطبيعتها، حتى لا نقول أيديولوجي، وكذلك هي الجوائز، لكن الكتابة، وحْدَها، عندما تكون أصيلة، تعطينا القدرة على اختيار شكل وجودنا ومستقبلنا، عبْر تنمّية وعينا، وتحسين إدراكنا، على العكس من الجوائز التي لا تُقْرأ. انطلاقاً من هذا التمايز، يتهيّأ لي أن سبب تلك الحمّى شيء آخر مختلف تماماً. سببها الأساس، كما أتصوّر، هو البنية، أو التركيب الاجتماعي، أو شكل الفكر الذي يتبنى هذه الجوائز التي أصبحت إحدى أهمّ محفًّزات الكتابة الأدبية عربياً، والذي لا يمنحها إلاّ لمن يناسب ذوقه الأدبي، وبنيته العميقة، دون الاهتمام «بالمآل الكارثي» ثقافياً على المدى الطويل لفعله الذي يبدو «آنياً» وكأنه تقدير مستحق. هذا «الفكر المانح» الذي هو أصلاً غير مبدع، لم يكتف باستيعاب الإبداع العربي، وتخضيعه، بشكل يكاد أن يكون نهائياً، بل هو بطاقته المادية اللامحدودة، راح يتمدَّد في ما هو أبعد من مجاله المحدود، ليجعل من العالم العربي، كله، ساحة «لقوّة جوائزه الناعمة». وقد شجّعه على هذا الاكتساح تَسابُق العديد من المبدعين العرب ذوي الشهية الزائدة على موائد جوائزه السخية، التي يتفنّن في تقديمها. وشهية الكثيرين منهم، كما نعرف، بلا حدود. وفي النهاية، ماذا أنتج هذا «التهافت الثقافي» غير«كتابة جوفاء» محايدة، قائمة على الوصف والإنشاء والسِيَر الذاتية الباهتة. كتابة مؤسساتية، متساوقة، ومستقيمة. لا تشذ عن القاعدة، ولا تحرّض على التغيير. تغيب عنها رغبة التحرر العميق. وسذاجتها لا تدهش القارئ، إن لم تُغرِه بأن يصير كاتباً، هو الآخر. إنها مجرد «استنساخ مبتذل» عن «كتابة أخرى» نفتقدها بعمق، لكن «ماذا في إمكان الفرد المعزول أن يفعل لعالم مثل هذا، غير أن يقول له إنه سائر نحو الانهيار» على حد قول ماكس هوركهامر، وهو ما يدفعنا إلى أن نعلن، من جديد، انحيازنا الواعي إلى نَزْعَة «من أجل أدب بلا جوائز».

روائي سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي