الحداثة والأخلاق في الفكر الفلسفي المعاصر

2023-06-24

المهدي مستقيم

لا ريب في أنّ النقد الفلسفي للمجتمع نقد أخلاقيّ بالدرجة الأولى (= الأخلاق شأن عقلاني) ومن أجل ذلك، يُكبُّ الفيلسوف على إخضاع الأفكار والاعتقادات السائدة لمحكِّ الفحص والاستنطاق العقليين، قصد الإسهام في سيرورة انبجاس الحقيقة الأخلاقيَّة (J.Rawls, A theory of justice, Havard,1971 ). قد يعترض دعاة الموقف اللاَّأدري من الأخلاق على هذا القول، بتعلة أنَّ مفهوم (المعرفة الأخلاقيّة) غير متماسك منطقيّا البتة، إذ لا توجد قيم أخلاقيّة، بل لا توجد حقائق أخلاقيّة من الأساس، ومردُّ ذلك إلى نزوعهم العدمي الذي يَروم إلى تأصيل الأخلاق في الإرادة دون غيرها ( Richard Taylor, good and evil, Macmillan, 1978) ؛ فليس العقل هو أداة التمييز بين الخير والشر، بل الإرادة (= الرغبات، الدوافع، الميول) فالموضوع لا يكون خيّرا إلا لكونه موضوع رغبة، ولا يكون فاسدا إلا لكونه محبطا لها. ومن ثم، لا يجوز لنا «أن نسأل عمّا إذا كان ما يُشَكِّلُ موضوع الإرادة يتطابق مع ما هو خيّر من منظور عقلاني» (عادل ضاهر، نقد الفلسفة الغربية، الأخلاق والعقل، دار الشروق للنقل والتوزيع، عمان، الأردن، 1990) على أنّ وظيفة العقل هاهنا تقتصر على تحديد الوسائل الكفيلة بتحصيل أهداف الإرادة فحسب: «إنّ الإرادة عمياء، بمعنى أنه لا يمكن إيجاد أساس عقلاني أخير للغايات النهائية للإنسان» (المرجع نفسه).

ينفي المذهب الوضعي وجود أي ضرب من الحقائق الأخلاقيَّة: «لا وجود لقضايا في الأخلاق، لا منطق في الأخلاق» فالمنطق قوامه الاستدلال الصحيح، وهذا الأخير، لا يتم إلا بتوسُّط القضايا الحقيقيّة، ودونها «لا معنى للكلام على وجود حالات استدلاليّة في الأخلاق، وبالتالي للكلام على «منطق» خاص بالخطاب الخُلقي» (عادل ضاهر). ومن أجل ذلك، ينزع الوضعيّون المناطقة إلى التمييز بين الأخلاق المعيارية والميتا- أخلاق: «على الفلاسفة إشاحة النظر عن الأخلاق المعيارية والتركيز على الميتا-أخلاق». الأمر الذي يناقض توجه الفلسفة الكلاسيكيّة التي دأبت على الجمع بين الأخلاق المعياريّة والميتا-أخلاق (سقراط، أفلاطون، أرسطو) إذ يمكن أن نلاحظ تقاطع الميتا-أخلاق بالأخلاق المعيارية في بحث سقراط عن معنى الفضيلة أو العدالة أو الخير؛ على أنّ البحث عن معيار كليّ للسلوك لا يقتصر على الميتا-أخلاق كما هو الشأن لدى الفلاسفة التحليليين المعاصرين: «هنا نجد التحليل الميتا-أخلاقي (تحليل معنى الخير أو الفضيلة) جزءا من نشاط أوسع هو النشاط المعياري، أي نجد الميتا-أخلاق مندمجة بالضرورة في الأخلاق المعيارية» (عادل ضاهر). لم يضع أرسطو نصب عينيه -أثناء انكبابه على تحليل مفهوم (العقل العملي) في ترابطاته مع ضروب معينة من الفضيلة- المقاربة الميتا-أخلاقيّة دون المعيارية، بل راهن على تحقيق أحد أعظم أغراض الأخلاق المعياريّة، ونقصد تشييد الأس الذي تقع فيه الحياة الأخلاقية على مسوغها الأخير (عادل ضاهر).

الفعل الأخلاقي

من أجل تقويض الموقف اللاأدري من الأخلاق، لا مناص من العمل على تأسيس الفعل الأخلاقي تأسيس عقليّا (= تشييد الفعل الأخلاقي على أس عقلي)؛ بحيث يتوقف نجاح كل مذهب معياري ـ نجاحه الفلسفي- على مدى تهجّسه بتشييد الأخلاق على أسس عقلية، الأمر الذي يتنافى والرهان اللاّأدري (= لا دور للعقل في الأخلاق): قوام الأخلاق الالتزام الذاتي، وهو شأن يتجاوز العقل (= فوق عقلي). فإذ تهدف المذاهب اللاّأدرية إلى هدم الأسس العقليّة للأخلاق، يهدف المذهب المعياري إلى تقوية لبناتها وتدعيم مداميكها (عادل ضاهر). من هنا، منشأ المساعي التي ترمي إلى تفنيد مزاعم المذاهب اللاَّأدرية في الأخلاق( Marcus singer, « Moral skepticism » in C.L . carter (ed) skepticism and moral principles, (new university press, Illinois, 1973)

ثمة ضربان من اللاأدرية الأخلاقيةّ، الأول؛ ينفي إمكان تشييد أي معيار من شأنه أن يكشف عن الحقيقة الأخلاقية، إذا افترضنا إمكانيّة وجودها. والثاني؛ ينفي إمكانيّة وجود حقيقة أخلاقية من الأساس، على أنَّ هذه الأخيرة مستحيلة منطقيّا (= نزوع عدمي): لا شيء صحيح أو خاطئ، من وجهة نظر أخلاقيَّة.

تركّز الذاتانيّة الأخلاقيّة على الأثر الذي تُخَلّفُه الأفكار والمواقف والمشاعر المسبقة للمتكلم على الأحكام الأخلاقيّة، على أنّ الحكم الأخلاقي للشخص يرتبط بما يشعر به، أو يميل إلى الشعور به؛ فما يجعل الحكم أخلاقيّا «في نظر الذاتاني الشخصي، ليس شيئا مُتَّصِلا بأي سمات موضوعيّة لموضوع الحكم الأخلاقي، بل موقف المتكلّم من هذا الموضوع» (عادل ضاهر). ومن ثم، فإن الاختلاف في مستوى المواقف الأخلاقيّة لا يمكن الحسم فيه.

بصرف النظر عن الطابع الذاتي للأحكام الأخلاقيّة وعن تَحَيُّز أصحابها، فهي أحكام يمكن إخضاعها لثنائية الصدق والكذب، على عكس ما يدّعيه المذهب الذاتاني الأخلاقي: «إنّ حكم الأبيض جنوب الولايات المتحدة أو جنوب إفريقيا بأنه مُتَفَوّق عقليّا على الأسود أو حكم المسْلِم بأن الأموات سيبعثون من قبورهم هو حتما حكم يمكن أن يُصَدّق أو يُكذّب، بغض النظر عن الموقف الذاتي لصاحبه. فلا تحيّز أو عدم تجرّد صاحبه ولا تمسّكه العنيد به في وجه كل الأدلة المعاكسة التي يمكن أن يواجه بها يمكن أن يعنيا وحدهما أنه حكم لا يرتبط صدقه منطقيّا بالأدلة الموضوعيّة، من عقليّة وتجريبية» (عادل ضاهر). ليس معيار الحقيقة الأخلاقية إذن، التطابق مع الواقع الموضوعي، بل التطابق مع مقتضيات ومستلزمات المنظور الأخلاقي؛ «كون أمر ما واجبا أو مستحسنا بالفعل هو كونه أمرا واجبا ومستحسنا من المنظور الأخلاقي» (عادل ضاهر).

أما النظرية الانفعاليّة فتشدّد على استحالة استنباط حكم أخلاقي ما من حكم أو أحكام من النوع نفسه، أو مناقضته لحكم من النوع نفسه. فإذا كان الحُكم الأخلاقيّ (س) الملزم بالإقدام على الفعل (أ) حكما صادقا، فإنه من الضروري منطقيّا أن يكون الحكم: «ليس من حق (س) ألا يفعل (أ)» حكما منطقيّا، وهو الأمر الذي يعني أن القضيّة: «من حق (س) ألا يفعل (أ)» تُنَاقض منطقيّا القضية: «إنَّ (س) مُلزم بأن يفعل (أ)». ومن ثم، فإن «ما نثبته في حكم أخلاقي ما قد يتضمن منطقيّا أو قد يُناقض ما نثبته في حكم أخلاقي آخر» (عادل ضاهر). هكذا، لا يمكن اختزال الحكم الأخلاقي في البعد الانفعالي فحسب، ذلك أنه يشمل بعدا منطقيّا خالصا، إذ في إمكان القيم الأخلاقيّة أن تكون صادقة رغم عدم موضوعيَّتها (= إمكان تشييد معرفة أخلاقية).

المزاوجة بين العقل والسياق التاريخي والثقافي: ينهل لارمور في هذا المستوى من مقولة هيغل الشهيرة: «العقل في التاريخ» الأمر الذي ينم عن تهجسه بالتجارب الثقافية والممارسات الثقافية، يقول لارمور: «إنَّ العقل بوصفه كذلك، مفصولا عن المكتسبات التي يمكن أن يستند إليها، لا يمتلك إلَّا معايير صورية، لا تقدر بنفسها على تسويغ أي أخلاق في حدودها الدنيا».

الأحكام الأخلاقية

وفي المقابل ينظر المذهب النسبي في الأحكام الأخلاقيّة، بما هي نتاج سياقات أخلاقيّة مُخْتَلِفَة، أو بما هي نتاج معايير ثقافيّة، بحيث يكون الحكم الأخلاقي صادقا بالنسبة إلى ثقافة معينة دون سواها. ومن ثم، فإن الحديث عن الحقيقة الأخلاقيّة، يقتضي وجود منظور أخلاقي مشترك بين الثقافات جميعها (= منظور فوق ثقافي). بيد أنَّ القول بنسبية الأحكام الأخلاقيّة، فحسب، لا ينفي وجود معايير ثقافية مشتركة.

يندرج كتاب «الحداثة والأخلاق» للفيلسوف الأمريكي تشارلز لارمور الصادرة ترجمته حديثا عن منشورات صوفيا (الكويت -2022) ترجمه الباحث والمترجم الجزائري الزواوي بغورة، ضمن هذا السياق، إذ يخضع النظريات الأخلاقية لمحك النقد والسؤال. ويعد الفيلسوف الأمريكي تشارلز لارمور (1950) – أستاذ الإنسانيات في جامعة براون (Brown)- أحد أبرز الباحثين المتهجسين بالمسائل الأخلاقية والسياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، وتَدُلُّ مؤلفاته على كفاءة وحنكة في مستوى البحث والإنجاز، ونخص بالذكر: أنماط التعقيد الأخلاقي (1987) أخلاق الحداثة (1993) الميراث الرومانسي (1996) ممارسات الذات (2004) نقاش حول الأخلاق بين المثالية والواقعية بالاشتراك مع الفيلسوف الفرنسي ألان رينو (2006) استقلالية الأخلاق (2008) المستجدات الأخيرة للذات بالاشتراك مع الفيلسوف الفرنسي فانسان ديكومب (2009) ما الفلسفة السياسية (2020) الأخلاق والميتافيزيقا (2021).

يرُاهن لارمور من خلال هذا المصنف على إعادة النظر في الرؤية النمطية التي سادت الفكر الفلسفي المعاصر؛ لاسيّما تلك التي لا تبرح تشطره إلى قسمين متصارعين: فلسفة تحليلية، فلسفة قارية، إذ آثر لارمور بلورة حوار فلسفي نقدي قطب رحاه مسائل الأخلاق والسياسة، يشارك فيه مختلف الفلاسفة المعاصرين على تباين مرجعيّاتهم وتوجهاتهم.

ينقسم المصنف إلى ثلاثة أقسام تضم عشرة فصول يجمعها خيط ناظم: الحداثة الأخلاقية والسياسية. يناقش القسم الأول الذي يحمل عنوان: أخلاق قديمة وحديثة، ثلاثة قضايا أخلاقية رئيسة وهي: المعرفة الأخلاقية، ومسألة أسبقية العدل على الخير، وما بعد الدين والتنوير. في حين يناقش القسم الثاني المعنون بحدود فلسفة الأخلاق: قضايا أخلاقية حيوية من قبيل: عدم تجانس الأخلاق، العدالة الإلهية والعقلانية الأخلاقية، والرومانسية والأخلاق. أما القسم الثالث فيعرض لبعض مسائل الفلسفة السياسية، ويسلط الضوء على قضايا من قبيل: الليبرالية السياسية، فلسفة ليو ستراوس السياسية، نقد كارل سميث للديمقراطية الغربية، والتاريخ والعقل في الفلسفة السياسية. يستمد هذا المصنف قيمته انطلاقا من تسليط الضوء على عدة جوانب يركزها الزواوي بغورة في ثلاث نقاط رئيسية:

إعمال النظر في قضايا أخلاقية لم يألفها التأليف العربي: يقول الزواوي بغورة: «ثمة بلا شك ترجمة للفلاسفة الغربيين في الأخلاق، وبعض المؤلفات التي تعرض النظريات الأخلاقية عرضا أكاديميا عاما أو خاصّا، لكن ليس لدينا مناقشات فلسفية للنظريات الأخلاقية، كما قدمها تشارلز لارمور سواء من جهة شموليتها، لأنها النظريات الأخلاقية القديمة والحديثة، أو في تحليله العميق للأسس التي تشكل مجال فلسفة الأخلاق، أو من جهة القضية المركزية المتمثلة في الحداثة وربطها بمختلف قضايا ومشكلات فلسفة الأخلاق، أو من جهة المنظور البراغماتي الذي يحاول تأسيسه في فلسفة الأخلاق».

المزاوجة بين العقل والسياق التاريخي والثقافي: ينهل لارمور في هذا المستوى من مقولة هيغل الشهيرة: «العقل في التاريخ» الأمر الذي ينم عن تهجسه بالتجارب الثقافية والممارسات الثقافية، يقول لارمور: «إنَّ العقل بوصفه كذلك، مفصولا عن المكتسبات التي يمكن أن يستند إليها، لا يمتلك إلَّا معايير صورية، لا تقدر بنفسها على تسويغ أي أخلاق في حدودها الدنيا». (أورده الزواوي بغورة).

نموذجية العلم: يقول «الزواوي بغورة»: «حاول الفيلسوف لارمور تجاوز التصنيفات الفلسفية المعاصرة، لكن مع ذلك، فإن أسلوبه في العرض والمناقشة لم يخرج عن التقليد الأنكلو ساكسوني، سواء من حيث طرح المشكلة، وتحليلها، ونقدها، ومحاولة تقديم البدائل الممكنة، بحيث جاء نصه أقرب إلى النص العلمي المجرد منه إلى النص الفلسفي الأدبي، خاصة في صورته الفرنسية التي تتداخل فيها الأساليب الأدبية بالأساليب الفلسفية والعلمية. لكن ما يجب الإشارة إليه هو أنه على الرغم من الدقة في التحليل، والاستدلال، وتأكيده على السياق إلَّا أنّ الفيلسوف لم يعزز أطروحاته، وأفكاره بأمثلة من الواقع تدعم ما يذهب إليه، واكتفى في معظم أطروحاته بالتحليل المجرد، وببعض الأمثلة القليلة جدا، والعامة والمعروفة، والتي لا تفي بالغرض في رأيي».

كاتب مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي