الأسئلة المؤرّقة في رواية «شموس الغجر» لحيدر حيدر

2023-06-19

ماجدة حمود

توحي الأسئلة المؤرّقة بصراع فكري، يؤدي، غالباً، إلى صراع داخلي، إذ لا يمكن فصل ما يطرحه العقل من أسئلة عن مشاعر! تعيش الشخصية تناقضاتها، وبذلك تخوض الأعماق صراعا في الرؤى والانفعالات، تتبدى في طرح أسئلة، يهجس بها المثقف العربي، تمس صلب وجوده في أمة، باتت ذليلة، تقتات على موائد اللئام!

يلاحظ المتلقي أن أهم سؤال يؤرّق المؤلف حيدر حيدر في «شموس الغجر» فيسقطه على صوت بطله، هو سؤال الانتماء إلى زمن مضى، أم إلى زمن معيش، وهذا يكافئ سؤال الهوية، مثلما يكافئ سؤال التغيير؛ ليفصح عن مسكوت عنه، هو الرغبة في صنع حداثة، تتيح لنا العيش مرفوعي الرأس؛ فنسمع صوت البطلة (راوية: الطالبة الجامعية) التي تمثّل جيلاً شاباً، يبحث عن ذاته في الحاضر، وعن علاقته بجذور الماضي؛ لهذا تساءلت: هل هي استمرار لخلية، تمتد إلى أكثر من ألفي عام؟ أم هي شهاب منفصل في فضاء كوني؟ أم هي أجزاء منفصلة ومتصلة بجدها وأبيها وماجد زهوان (حبيبها)؟

إنها تملك (أنا) زائغة بين ماضٍ، يرهقها بتخلف معتقداته وجموده، وحاضر يخذلها، إذلم يحقق نهضته، التي يحلم بها المثقف، لكنه ما زال عاجزاً عن صنعها، رغم ما يملكه من وعي فكري، ورغبة في التغيير، ومثل هذا التعثّر ما زال مؤرّقاً! يسجل للروائي حيدر حرصه على عدم إغراق روايته في التجريد، أو رسم صورة مثالية للمثقف العلماني (والد راوية) الذي يكاد يجسّد صوته ووجهة نظره في التغيير، مثلما حرص على استمرارية هذا الفكر عبر صوت الشباب (راوية، ماجد) فحاول أن يقدّم للمتلقي تجربة نكوص (الأب) نحو تعاليم جامدة، بعد أن أتاح الفرصة للمتلقي معايشة صوته في بداياته الماركسية العقلانية، ثم تحولاته إلى الدين بمفهومه المغلق، فيعيش مرحلة نكوص الماضي، فينبذ الفكر العلمي، الذي سبق أن تبناه، جملة وتفصيلا! فنسمع صوتاً نقيضاً (لابنته: راوية) يتمرد على وجهة نظر والدها الدينية. يلاحظ أن الأسئلة المؤرّقة لن نسمعها عبر صراع داخلي، تعيشه الشخصية (الأب، الابنة) عبر صوت الأعماق، أو عبر حوار مع من يشاركها الرأي (ماجد) بل يلاحظ طرحها بشكل صدامي مع من يتبنى رؤية نقيضة لها؛ فتطرحها على صديقتها (علية) التي تزوجت رجلاً إسلامياً، فسألتها: «ما ضمانتك أن يتزوج عليك زوجك الفاضل بأخرى غداً؟» لن يسمع المتلقي جوابا أو نقاشاً! فالغاية هي إحراج صديقتها بسؤال يناقشه الفكر العلماني والديني، يتعلق بتعدد الزوجات؛ لهذا لن يتيح المؤلف سماع صوت الآخر المختلف معه، عبر الحوار بين الصديقتين، أو على الأقل مناقشته ين الشخصية المتدينة (علية) ونفسها؛ لهذا بدا مبتوراً بجواب ينفي الحوار بشكل مطلق «آه منكم أيها الملحدون». فلا يبحث عن جسور فكرية، تعزز التواصل بين وجهتي نظر مختلفتين!

يلاحظ المتلقي أن (راوية) تطرح سؤالاً وجيهاً، ينطق به كل مثقف علماني: «لماذا العودة إلى الدين في عصر العلم والحداثة والتنوير؟».

يلاحظ المتأمل أن هذا السؤال، يطرح إشكالية فكرية: هل يمكن للفكر الديني، أن يسهم في تحقيق حداثتنا في عصر العلم، إذ ثمة فرق، حسب وجهة نظر المؤلف، التي أسقطها على بطلته، بين فكر عقلاني أنجز معجزة الحداثة، فكر غيبي يعوقها! مع أن ثمة رأياً آخر، يناقض وجهة النظر هذه، يقول بانسجام الدين مع الفكر العقلاني، بل لاحظتُ وجود هذا الفكر لدى المتصوفة (العطار، ابن عربي، جلال الدين الرومي) أي لدى أكثر المتهمين بالفكر الغيبي والشطحات غير الواقعية! لكن سنجد رؤية أكثر موضوعية للآخر (المتدين) نتيجة ملاحظة، فرضها الواقع المعيش! فقد تغيّرت الحال بتغير الزمن، لهذا يسجل للمؤلف طرح تساؤل ذكي لمسناه بملفوظ المثقف الفلسطيني: كيف كان الاشتراكيون قادة الثورة وتحرير فلسطين في الماضي، واليوم تسلّم الإسلاميون القيادة! وبذلك أسهم الإسلام في حركة المقاومة! لكن سرعان ما ترّد عليه (راوية) بوجهة نظر نقيضة، تبيّن كيف بات الإسلاميون إرهابيين لأبناء الشعب لا مقاومين للعدو! انظر إليهم في الجزائر ماذا فعلوا (في العشرية السوداء) فتسأل: «أين الخلل؟» فيردّ «الخلل ليس في جوهر الإسلام، إنما في الورثة المشوهين والمنحرفين» وبذلك يفرّق المثقف، الذي تطوّر وعيه مع الزمن، بين العقيدة الإسلامية السمحة في جوهر خطابها، وأبنائها التابعين لتفسير جامد للخطاب القرآني! إذ شتان بين من يقرأ لغته قراءة مفتوحة، فيجده مؤسسا على تأويلات رحمانية، تشكل عموده الفقري، ومن يقرأ لغته قراءة مغلقة، تحاصر دلالاته برؤية واحدة، تقوم على العنف والعذاب، لذلك تحتاج الإجابة عن (أين الخلل؟) إلى رؤية فكرية عميقة، فالخلل لا يكمن في الخطاب الديني نفسه، بل في أتباع أغلقوه على رؤية واحدة، تعتمد نظرة ضيقة، تناسب محدودية فكرهم وتعصبهم! لذلك أساؤوا بانحرافهم إلى هذا الخطاب! يلاحظ المتلقي أن المؤلف بات يمتلك صفات التواضع وعدم إطلاق الأحكام، حين يطرح أسئلة مؤرقة، لكن ما يؤخذ عليه، أنه لن يستطيع الدفاع عن وجهتي النظر النقيضتين بمنحهما كليهما الفضاء السردي نفسه، لكن لا ننسى أن المؤلف ابن بيئة (سواء أكانت تقليدية أم مثقفة) لا تقيم وزنا للحوار، رغم أنها قد تدّعي تبنى أفكار تنويرية! لكنها ما زالت بعيدة عن الحوار واحترام الرأي المختلف! ولا ننسى السياق التاريخي، الذي عاشت فيه شخصيات رواية «شموس الغجر» الذي عانى من»نصف قرن من الحروب الأهلية والخارجية» لهذا نجد الشخصية لدى حيدر، تنطق بأسئلة، تؤرّق المثقف المهموم بقضية الحداثة والحرية في مجتمع متخلف: «ماذا كان الحصاد؟ إلى أين وصلنا؟ من انكسر ومن انتصر؟ ولماذا أين يكمن العطب؟ هل هو فيمن ضحى وغاب؟ أم هو في خلايا الجسد المصاب بجنون العظمة وغريزة التملك والسلطة ووحشية الاستبداد» لهذا حين أراد أن يصف السياق الزمني، الذي نعيش فيه، لم يطرح حوله أسئلة مقلقة، توحي بعدم اليقينية والتحوّل عن هذا الجمود والتخلف، بل وصفه بصفات سلبية ثابتة، ما زالت إلى اليوم تنخر الوطن والإنسان «التدجين والخصاء واللامبالاة وغياب البديل».

لكن ما يسجل للروائي عدم إغراق فضائه السردي بهذه الرؤية المظلمة، بفضل منح الشباب فرصة التعبير عن ذاتهم ورؤيتهم الرافضة لهذا الجمود! لهذا استطاعت الشابة (راوية: الطالبة الجامعية) أن تطرح سؤالاً مؤرقاً، يكاد يكون سؤال كل مثقف، أنضجته السنون بتجاربها الفكرية والشعورية، لعله سؤال المؤلف ذاته في لحظة نقد ذاتي، أي في لحظة اكتشاف فكرة أهمية الحوار مع الآخر المختلف بصفتها إحدى وسائل عيش التعددية؛ لهذا أسقط هذا السؤال على صوت بطلته، التي لم تتخرج من الجامعة بعد: «لماذا ينمو العداء جرّاء الاختلاف في الرأي؟ أما بالإمكان الاحتفاظ بالصداقة تحت ظلال تلوّن المعتقدات؟».

يوحي طرح الروائي لمثل هذا السؤال بمدى وعيه بأزمة، ما زال يعاني منها، مجتمعه؛ وبذلك يشكّل البحث عن إجابة له بداية السير الصحيح نحو حياة أفضل، تحترم إنسانية الإنسان باحترامها خصوصيته وتفرّده، حين لا تكتفي بالاعتراف بالآخر المختلف، بل تحترمه، وتصغي إليه!

يعتمد حيدر حيدر على وعي المتلقي ومشاركته، باستثارة تفاعله (العقلي والتخييلي) عبر هذه الأسئلة المؤرّقة، لهذا لن يحاول الإجابة عنها، أو بالأحرى لن يضعها على مائدة الحوار، ربما لأن هذا الأمر يحتاج إلى تطور ثقافي وتنوير فكري، يتيح للمثقف فرصة الاطلاع على رؤى متعددة، عندئذ يدرك أهمية أن يرفض السير في اتجاه فكري واحد، ينغلق على الذات! فينحرف عن المرونة والانفتاح، ومثل هذه المرحلة، تحتاج إلى سياق ثقافي اجتماعي متطور، يؤمن بالتعددية قولا وفعلاً.

كاتبة سورية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي