رواية «ضحكت تاني» للأردني موسى برهومة: نشيد الحياة

2023-06-18

خلدون النبواني

يستهويني الأدب الفلسفي أو ما أسميه «الأدبفلسفي» حيث تنداح حدود الفلسفة على الأدب والعكس، فيكون المزيج نتاجاً هو أبعد من الأدب وأغنى من الفلسفة. في النص الأدبفلسفي تمنح الفلسفة للأدب مزيداً من الرؤية، ويحبل النص بالمعنى، بحيث يجمِّل الأدب وجه الفلسفة الصارم الرصين، ويجعله قابلاً للتناول مكسوراً أو محلولاً برشاقة الأسلوب السرديّ الذي يقرِّب المعنى.

في الرواية الفلسفية أميِّز بين تلك التي كتبها فلاسفة مثل قصة حي بن يقظان لابن طفيل، التي تعد أول رواية فلسفية تسبق روايات: «كانديد وحكايات فلسفية» لفولتير، و»جاك القدريّ وسيده» لديدرو، و»رسائل فارسية» لمونتسكيو، و»أطلنطس الجديدة» لفرنسيس بيكون، و»اليوتوبيا» لتوماس مور، و»الغثيان» لسارتر. كل هؤلاء طغت الفلسفة عندهم على الأدب كثيراً أو قليلاً، لكن روائيين آخرين وازنوا جيداً بين الأدب والفلسفة، فلم يظلموا الأدب في حمأة انشغالهم بعرض الأفكار الفلسفية، وأذكر هنا نيكوس كازانتزاكس ونجيب محفوظ، لكن أيضاً كافكا وألبير كامو وأعمال مثل «عالم جديد شجاع» لألدوس هكسلي أو «فهرنهايت 451» لراي برادبوري، لكن يظل ميلان كونديرا شيخ الطريقة، في نظري، في كتابة الرواية الفلسفية، دون منازع.

ضِحكِت تاني

احتجتُ كل هذه المقدمة لموضعة رواية «ضحكت تاني» لموسى برهومة، التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. وسأستبق البرهان (الذي لا يأتي إلا بقراءة الرواية) للقول بأنّ هذه الرواية هي رواية فلسفية بامتياز أجاد كاتبها معايرة المقادير بين السرد الروائي والفلسفة، فكانت عملاً أدبياً رشيقاً حافلاً بالصور وجماليات الأسلوب ومحمولاً على أفكار وتأملات فلسفية عميقة في الموت والحياة، ومعنى الوجود والإرادة والأمل. وحين تمر على القارئ أسماء الفلاسفة، مثل لوك، وراسل، وديكارت، وفيخته، وهيوم، ونيتشه، إلخ، أو بعض الأفكار والنظريات الفلسفية فإنها تمر خفيفة رشيقة مبتسمة واضحة لا تُجهد النص الروائي ولا تُثقله بالشرح الفلسفي المُتكلِّف. ما إن نقرأ عنوان الرواية حتى تقفز إلى الذهن أغنية عبد الحليم حافظ الشهيرة «فاتت جنبنا» فالعنوان مكتوب بالعامية المصرية، ويحيل مباشرة إلى ذلك المقطع/الكوبليه الذي يعيد الأمل للعاشق الحائر، الذي لا يعرف لمن ابتسمت تلك الجميلة التي مرت بجانبهما له، أم لصديقه؟ في تلك الأغنية/الحكاية التي كتب كلماتها الشاعر الرقيق حسن السيد، ولحنها محمد عبد الوهاب وغناها العندليب، وأعاد أداءها بجرعة شجن مكسور فضل شاكر، الذي سيحب بطلُ الرواية سماعها بصوته ما إن يستيقظ من أثر التخدير في غرفته في المستشفى، بعد أن كابد آلام الوجود..

تبدأ الرواية بتأكيد دور الإرادة الذاتية أو المشيئة في مواجهة الموت، الذي يتحوّل إلى مجرد خيار خاضع لإرادة الشخص في أن يموت أو يرفض الموت، لا أن يؤجله حسب. يستهل الراوي روايته بالقول: «تستطيع أن تتمرد على الموت. تستطيع أن تهزمه لو شئت». وفجأة يتحول الكاتب من تلك الجملة الخبرية التي تشبه الكشف أو النصيحة، إلى صيغة الأمر مطالباً القارئ: «لا تمت» بهذه الصيغة الأمرية الناهية القصيرة، يأتي هذا الطلب كالوصية الحادية عشرة: بعد لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، إلخ. أو هي ربما الوصية الأولى التي تتقدم على كل ما عداها من وصايا، والتي يسنّها برهومة كحق مقدس هو حق الشخص في الحياة المنصوص عنه في حقوق الإنسان، لكنه ينقلها هنا من حيز القانون العام أو الواجب في الحفاظ على حق الحياة بالعموم، إلى وصية شخصية، بحيث يبدو العزوف عنها بمثابة انتحار. والانتحار قرار فرديٌّ أيضاً مثله مثل الموت. نعم، كل موت هو انتحار، أو على الأقل، رضى وقبول وانصياع واستسلام لنداء الموت، فالروائي يستطرد قائلاً في الصفحة الأولى دائماً: «يموت الكائن عندما يشاء ذلك، هو الصانع لأقداره، هو صائغ الحياة، هو المبتدأ والنهاية والمتن». هذا الروائي الذي أصبح جدّاً لم يستطع أن يخالف أوامر أمه الغاضبة التي وقفت في وجهه وهو ماض إلى الموت وأمرته بالعودة من حيث أتى، أي إلى الحياة، بعد أن صاحت به «بصمت يشبه الرعد، وبلهجة آمرة، دون أن تنطق بكلمة: عُد يا وائل، من حيث أتيت.. عُد». وهو لا يستطيع كذلك خذلان ابنه المراهق «رايان» الذي يلقب أباه بالمقاوِم ويدعوه لمقاومة المرض والانتصار على الموت. هكذا يبرز لنا الروائي، أنّ مقاومة الموت ليست فقط خياراً فردياً، وإنما هي تحمّل لمسؤولية آخرين لا يريد أن يتسبب لهم باليُتم أو الحزن أو الانكسار والفجيعة. بيْد أنّ رفض الروائي للموت وعدم خشيته منه لا يعني أبداً أنه «تبجح أو غطرسة، أو ازدراء مفتعل لواحدة من الحوادث الأشد فتكاً بالكائن» وهو لا يعني إنكاراً لحتمية قدوم الموت وحدوثه، فهو يؤكد حقيقته بالقول: «فالموت هو الحقيقة الوحيدة التي أؤمن بها». إنّ رفض الموت بالنسبة للروائي/الفيلسوف هو رفضٌ للاستسلام له، ورفضٌ لمغادرة الحياة دون ترك أثر، والبقاء في الذاكرة ومقاومة الموت والكآبة بالكتابة، فهو إن كان لا يمتلك ثروة لتوريثها لأبنائه، يمتلك بالمقابل «رصيداً من الكلمات والأفكار» ويريد أن يخلق بها «أثراً معرفياً» يهزم به الموت ويخلِّده بعد الرحيل. وهو يشرع بذلك فعلاً فبرهومة/وائل عبد الكريم عاد فعلاً من بين براثن الموت ليقصّ علينا ما جرى، فعلى خلاف ما قاله محمود درويش: «لم يعد أحدٌ من الموتى ليخبرنا الحقيقة» إلا أنّ الحقيقة تؤكد أنّ ثمة كثيرين رجعوا من بين شدقيْ الموت، ومحمود درويش أحدهم، وما الجدارية، إلا قصة العودة من الموت إلى الحياة، (وقد أكون شخصياً أحدهم ولم أروِ قصتي بعد) لكنّ برهومة فعل في «ضحكت تاني» بعد أن قرر بملء إرادته أن «يهزم الموت ليستكمل الحديث عن الرحلة» كما يروي لنا.

وكأي فيلسوف أصيل يتوقف الروائي/الفيلسوف عبر بطل الرواية وائل عبد الكريم عند معنى الكلمات ودلالتها والرسالة منها، فكلمة ضحكت هنا، قد تقلب رسالتها حروف الجر اللعينة من النقيض إلى النقيض. هل ضحكت له؟ أم عليه؟ هل عودة الحياة إليه بعد خيانة القلب العابرة أمرٌ يبعث على الفرح والأمل والمعجزة التي قد تكون ربانية، فهو يصفها: «يداً إلهية تشبه يد أمه» ـ التي قد تفسرها الدلالة الرمزية التي قد لا يكون الكاتب قد انتبه إليها أصلاً ـ لاسم البطل وائل عبد الكريم أي الملتجئ والمستجير بالرب الكريم؟) أم هي تلاعب به ومزحة ثقيلة من القدر خلخلت وجوده ورمته في جحيم العذابات الجسدية والنفسية التي تصبح وكأنها ذلك «المحقق الذي يُغرق رأس المعتقل في دلو ماء، ثم حينما يشارف على الاختناق يرفعه؟ لكن كما أنّ الموت قرار عند الكاتب، فالتفاؤل هو أيضاً قرار والسعادة ابتكار، وهو يتبنى بالتالي سيناريو التفاؤل والأمل، فالحياة لا تضحك له «تاني زي الدنيا ما تيجي في ثانية وتمشي في ثانية» وإنما ستقبل عليه مُطمْئِنة فاتحة له ذراعيها الدافئتين بشوق وشبق العاشقة، إنها الحياة. وإذا كانت مواجهة الموت أمراً محتوماً وتجربة قاسية، فإنّ من واجب العائد من الموت أن يعيد الاعتبار لحياته ولعلاقته بالناس وبتصوراته عن معنى الوجود، ففي «لحظة الارتطام بالموت يكون الإنسان أمام جملة من الأسئلة الوجودية الحارقة: من أنا، ولماذا وجدت، ومن أين جئت، وإلى أين أّذهب؟». وفي مراجعته لماضيه وحاضره ومستقبله الذي عاد من جديد ليمتد أمامه، يؤكد وائل عبد الكريم الفيلسوف والأستاذ الجامعي على أهمية المحبة والتسامح، فالعمر قصير حقاً ويجب عدم صرفه «في إنتاج الأنانية والكراهية والمؤامرات الصغيرة والأذى». والبحث عن المباهج العظيمة، مهما بدت صغيرة، مثل خروج غير مخطط له مع العائلة، أو قضاء الوقت بين شجيرات الغار، والتلذذ بطعم شجرة المشمش التي زرعها في بيته في عمّان. هكذا يولّد الموت نقيضه، حب الحياة والتمسك بالحياة، أو ما كان يلهج به محمود درويش بعد خيانة قلبه الأولى: «تحيا الحياة» الذي سيصوغه برهومة بعبارة جميلة «مانفيست الأمل».

أتوقف عند فصلان قصيران في هذه الرواية ، الأول بعنوان «سر الأصبع الوسطى». لو كنتُ مكان الكاتب لاخترت هذا العنوان الفرعي عنواناً للرواية، فهو يختزن رمزية عالية جداً في مقاومة الموت والسخرية منه بشكلٍ لا واعٍ حين تطلب منه زوجته، بناءً على رأي الطبيب الذي طلب منه الموتُ أن تدعو زوجها لأن يتشهّد فلم يعد أمامه سوى الرحيل، لكنّ وائل الغائب عن الوعي تقريباً حرّك بدلاً من ذلك الأصبع الوسطى، كما لو أنه يسخر من الموت، كما لو أنه يقول له: خذ هذا الأصبع، فأنا لا أريد أن أرحل، ليس الآن، ليس بهذه الطريقة. وهو يعيد الكرّة مرة ثانية حينما ييأس الطبيب من جديد من حالته، ويطلب من زوجته أن تطلب منه التشهد فيمد لها وهو بكامل وعيه أصبعه الوسطى ممازحاً. رمزية ودلالة الأصبع الوسطى المشهرة في وجه الموت تختصر شخصية وائل/موسى المقاوم الذي لم يخيّب ظن ابنه به، لكنه خيّب وهو يبتسم ظنّ العدم.

الفصل الثاني كان بعنوان «مصباح الحب يضيء كل ظلام» فقد ذكّرني بمقدمة نيتشه لكتابه العِلم المرح. بل إنّ روح الرواية ككل تحمل، دون أن تتقصّد ذلك، روح تلك المقدمة الجذلى بالحياة والعودة إليها. فكتاب نيتشه جاء بعد صراعٍ طويلٍ مع المرض أقعده طيلة ذلك الشتاء من عام 1882. منذ الصفحة الأولى للرواية وأِشباح نيتشه في مقدمة العلم المرح تحديداً لم تفارقني للحظة. كثيراً ما يلتقي الفلاسفة بالصدفة دون أن يتقصّدوا اللقاء. مثل تلك المقدمة النيتشوية الشهير الممتلئة بالحياة التي أخذت أبعادها بالانتصار على المرض والاعتراف بجميله ربما فهو قد أعاد الحياةَ للحياة تأتي رواية موسى برهومة نشيداً للحياة أو «مانفيست الحياة» «الذي عاهد نفسه عليه، بعد عودته من الموت، أن يوقف زحف الزمن، بصناعة لحظات لا يمحوها النسيان».

«ضحكت تاني» رواية عن الحياة بقدر ما هي رواية عن الموت، بل لعل أكثر ما يبرز قيمة الحياة وقدسيتها هو الموت الذي يذكرنا بذلك الحظ العظيم، لكنّ المنسي الذي نعيشه دون أن نراه، أن نكون على قيد الحياة خارج قيد الموت وقيد أرشيفه المفتوح، الهائل الضخم. ضحكت تاني لموسى برهومة هي أيضاً سيرة ذاتية قصيرة تتسلل إلى القلب على مهل كأنبوب القسطرة بما يحدثه من دغدغة وألم وما يحمله من قلق وترقب وأمل. رواية عذبة صادقة فلسفية نقية تفتح شرايين القلب العطِب، وتمنح جرعة أوكسجين تعود معها الحياة لتنبض من جديد كقلب أفرج عنه للتو…

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي