الحداثة اللامتناهية الشبكية: كتاب في رثاء الكتابة

2023-06-17

عاطف محمد عبد المجيد

في كتابه الجديد «الحداثة اللا متناهية الشبكية.. آفاق بعد ما بعد الحداثة «، الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، يدخل الشاعر والباحث اليمني هاني جازم الصلوي أرضا بكْرا لم تطأها أقدام كثيرين قبله، يدخلها متناولا موضوعا يعتبر في اللحظة الآنية من أهم الموضوعات المثارة على الساحة الإبداعية والثقافية، بل والفكرية. يتناول الصلوي في كتابه هذا موضوع بعد ما بعد الحداثة، مازجا إياه بالكتابة الرقمية، التي وُلدت مع مولد الشبكة العنكبوتية / الإنترنت. كما يتحدث عن الرقمية بين إشكاليتيْ الورقية، وهدم الأطر الفلسفية والنقدية، عما قبل الإنترنت، عن الحداثة، ما قبل بعدها وما بعد بعدها، عن اللاتناهي الشبكي وانهيار المثقف، وعن الفن اللامتناهي الشبكي. ويصف الصلوي كتابه بأنه كتاب في رثاء الكتابة، أو بمعنى آخر هو مرثية للكتابة، أو تشكيكية في جدواها، مع إيمان وشيك بأن الانتقال إلى ما بعد الكتابة قد تم شئنا أم أبينا.

أقفاص مركزية

يقول الصلوي في مقدمته للكتاب التي وضعها على غير العادة في آخر الكتاب: لعل من المفيد في بداية هذا الكتاب الإشارة إلى كون ما قمت به طيلة المحاورالسابقة لم يكن سوى تفكيرنا جميعا بصوت عال ومخاتل لاستنباط «لا نظرية» لا متناهية لا تؤطر ما نحن عليه في أقفاص مركزية، أو رسمية، بل تشتبك مع هوياتنا وتتدافع معنا ـ نا ـ في كل الاتجاهات، أولا. ثانيـا وهو الأهم فإن هذا الكتاب في الحقيقة دعوة لكل من يمر عليه لكتابته بالصيغـة التي يحب ويؤمن بجدواها ولا جدواها لتكون اللانظرية أو اللاتناهي الشبكي ـ الحداثات/ الرؤى ـ هي ما ستكتبه أنت، نحن، هم، هن، هما، بعد الاشتباك مع جميع لا متواليات الدراسة. ويرى الصلوي أن اللامتناهية الشبكية لا تحبذ الغوص في تفاصيل شكل القارئ الجديد، والكاتب الجديد والنص الجديد، كونها تثبت كل لحظة، أن تلك مفاهيم تنتمي لمرحلة أسبق، وهي على الدوام تقدم متغيرات أجد. كذلك يعلن أن السياق اختلف مع المرحلة الرقمية، باعتبارها حياة بعد ما بعد حداثية، لها خصائصها وسماتها التي تعاش بشكل دائم، ومن هنا انبثق هذا الطرح، الذي يمكننا من أن نسائل من خلاله العصر والمنظومة بشكل عام، مع الانعطـاف ناحية فلسفة الأدب، ما الذي تبقى من الأطر السابقة، نظريات وأفكار ومدارس ومبادئ واستراتيجيات؟ مع إدراك تام أن الفعل (المساءلة) لا يمكن أن يتم من خلال ورقة نقدية، أو فصل في كتاب، أو رسالة أكاديمية، لأنه يحتاج إلى مؤتمرات دائمة وورش لا تكف عن الرصد والاستفهام.

عصر المعلومات اللامتناهي

ويكمل الصلوي أنه في قمة انغماسه في ما له علاقة بالحياة الافتراضية والرقميات وتحمسه لها، عادت إلى دائرة اهتماماته جملة من التساؤلات حول ماهية بعد ما بعد الحداثة الملغزة، ليجد نفسه يميل إلى تبني اقتناع ملموس اقتضى حينها السن والمرحلة، تبنيه بحماس مفرط وسطحي، وهو أن عصر الوسائط هو عصر بعد ما بعد الحداثة في حين تؤكد معظم الدراسات على ما بعد حداثية عصر الصورة والوسائط المتعددة، وهو ما لم يستطع أن يضمه إلى يقينياته حينها، إلى جانب ذلك يضيف قائلا إن «ما بعد الحداثة « قد حررت العقل ـ ذاته ـ من المركزية بانحيازها إلى العقل غير الصارم، وغير المنطقي، وغير المتماسك (المتشظي) إلى الإنسان المتناقض، المتعدد بدلا من الإنسان الكامل النهائي، ما ساهم في انبثاق فكر «بعد ما بعد الحداثة» وبالأخص في هيئته «اللامتناهية الشبكية» التي تقترحها هذه الدراسة. ويكمل أنه مع ظهور الإنترنت، كان تفكيكك مركزية العقل اللامركزي (ما بعد الحداثية) ضروريا وهو ما تم من خلال نظريات بعد ما بعد الحداثة (بالطبع باستثناء النظريات المنعكسة منها) أو بالأصح ما فعله عصر المعلومات اللامتناهي. وفي الاتجاه نفسه يستطرد الصلوي فيقول إنه مع كل هذا لا بد من ذكر بعض النقاط الفاصلة التي احتوى عليها المتن وكانت حطبا لذيذا لمواقـد بعد ما بعد في الحداثة اللامتناهيـة الشبكية. منها تأكيد المتن على كون النصوص الجديدة خارج المجانية والتهديف معا (عودة إلى الشعر أيضا) التأكيد على شعرية التقنية، انعدام الوجود الخارجي للأشياء، وسم النصوص الجديدة بالعلمانية والديمقراطية، عده ثورة النص الجديد حداثة ثالثة (بعد ما بعد حداثة إذن) إيمانه بسقوط مفهوم الريادة نهائيا كون زعم كهذا، ما هو إلا زعم مرضي من منطلق أن الانفلات هذه المرة انفلات جماعي، عودة مصطلح الغرض بأشكال جديدة في ما يتعلق بالشعر، مقارنته الموجودات الرقمية الحاسوبية التقليدية بمشاهد تتعلق بعصر الصورة، وتوضيح تفوق مشاهد عصر الصورة عليها، التأكيد على الوضوح وعلى كون النص الجديد نص رؤيا وواقع وافتراض. وعن سؤال المخاوف مما وصل إليه الحال الشبكي يقول، إنه هو سؤال ما بعد الحداثة بحكم أن ثورة الحاسوب الأولى قد بدأت مع ما بعد الحداثة كما أن سؤال العوالم الفائقة أو الفكر الفائق ذلك الفضاء الذي تعده هذه المقاربة صلة الوصل الحقيقية، بين ما بعد الحداثة وبعد ما بعد الحداثة، في صيغته اللامتناهية الشبكية.

سرود وثائقية

وحين يتحدث الصلوي عن السرد اللا متناهي الشبكي يقول، إنه يأخذ ـ بوصفه سردا بعد ما بعد الحداثة ـ ببعديه الرقمي والكتابي المتحول صيغا غير ثابتة، إذ تظهر في فضائه المعتمد موجات من السرود الوثائقية (دان براون مثلا ـ عربيا عزازييل وأخواتها) كما عاد الشكل في فاعليات جديدة، ويستحسن التأكيد هنا على فقدان الفارق بين المادي الحسي والمعنوي أو بالأصح على تغير فكرة المادي والمحسوس تماما. إلى جانب ظهور نمط من الروايات التي تعتمد الشكل الرقمي ـ سردا خالصا ـ مثل روايات الشات والحيل الرقمية. ويُعد الأدب الرقمي ـ كما يرى الصلوي – واحدا من أهم متجاذبات اللاتناهي الشبكي، إلى جانب كونه متغيرا مهما من متغيراته النشيطة، إن لم يكن سياقا أساسيا في ما يخص اللامجتمع الافتراضي، أو اللامتناهي. على المستوى العربي ثمة جهود وضعت اهتماماتها عند هذه النقطة، محاولة خلق نص عربي رقمي، إلا أنها وقعت في فخاخ عدة، حيث اشتبكت في عملها أفكار التكنولوجيا في جانبها الما بعد حداثي، وقلة منها اقتربت من الهَم الفائق بأسقف عالية وغير عملية، وربما نجت من ذلك بعض المحاولات التي عملت في الفكر الرقمي العام، رغم ارتباط أهداف هؤلاء بالبعد التنموي بصورة أساسية.

ويكمل الصلوي في هذا الاتجاه فيقول، إن منظري الأدب الرقمي يرددون أنه لكي نطلق على أدب ما أنه رقمي، لا بد ألا يكون مكتوبا، ويجب أن يكون خارج اللغة الناظمة كليا للنص الأدبي العادي، بمعنى أن النص الرقمي ليس لغة أبدا، بصيغة أوضح: يسمى النص بالرقمي حين تكون اللغة فيه حاضرة بشكل غير مسيطر.

قصيدة النثر

كذلك يتحدث الكتاب عن قصيدة النثر بوصفها جنسا أدبيا أفاد كثيرا من الشبكية الرقمية، موضحا ظروفها المحيطة، في ظل وجود وتنامي الكتابة الرقمية، وما قدمته لها. وفي الأخير يذكر الصلوي أنه ليس من المجدي التأكيد على أن «اللامتناهية الشبكية» جهد عربي؛ ذلك أن الحقبة تقول بزوال الحدود بين المجتمعات» وهي الآن في مرحلة انتقال نحو اللاحدود. وربما أتت عربية هذا الطرح من لغة كتابته فحسب.

بقي أن أذكر أن الكتاب يُظْهر الجهد الذي بذله الباحث، وهو بحق يُعد واحدا من أهم المراجع في تخصصه، سيعود إليه في ما بعد باحثون كُثر، حين يتناولون هذه القضية الأهم في هذه السنوات.

كاتب مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي