في المجموعة القصصية «معابر الدهشة»: التوازن السردي والتصدع الاجتماعي

2023-06-16

رياض خليف

تقدم زهرة الظاهري في هذه المجموعة القصصية الصادرة مؤخرا عن دار خريف، قصصا تعتمد السرد المونولوغي، على حد تعبير ميخائيل باختين، وهو السرد بصوت واحد يمسك زمام السرد ويدير الأسلوب، ولكن هذا السارد يتردد بين موقعين، داخلي وخارجي. فالكاتبة تزاوج في سردها بين نمطين، نمط السرد الخارجي المتابع للأحداث، وهو سرد بضمير الغائب، لا يقحم السارد فيه ذاته. ونمط السرد المشارك في الأحداث باعتماد ضمير المتكلم. ولعل الطريف في الأمر تساوي عدد القصص من الصنفين. فكأن الكاتبة قصدت هذا التوازن. توازن الغائب والمتكلم، لكن هذا التوازن نفقده حالما نتفحص الخطاب الاجتماعي والواقع الذي تصوره الكاتبة.

توازن الغائب والمتكلم

تبدو الكاتبة في القصص ذات السارد الخارجي، حريصة على البنية الحدثية المتحركة التي تختتم بحدث صارم. ومن هذه القصص (امرأة الظل/ نجم/ حمام الشفاء/ بياض رجل لا يفهمها/ لقاء/ العابر/ الأشباح/ الصورة). وتبرز في أغلب هذه القصص ثنائية الشخصيات: امرأة ورجل تربطهما علاقة عشق أو زواج، في الأغلب ولكي هذه القصص تبدو منكسرة فهي تنتهي بخيبات مختلفة. أما في قصص السارد المشارك، أو السارد ضمير المتكلم، وهي قصص تتكلم فيها إحدى الشخصيات معتمدة السرد بضمير الأنا، وتتيح إثراء السرد بالوصف الباطني وتعبير الشخصيات عما يخالجها. ومنها (العرافة، بعثرة، السيد فليين، أحتاج إلى حضن، أيها الحب لما لا تدعني وشأني، دروب شائكة، نوم هادئ، صرخة، نور). والمتأمل في هذه القصص يلحظ أنها عناوين تحمل معنى القلق والتوتر النفسي، فنحن أمام شخصيات متأزمة تعبر عن إخفاقاتها وتبرمها.

يفضي تتبع بدايات هذه النمط الثاني إلى تسجيل نوع من التنوع في البدايات السردية. وهو نوع من الخروج عن النمطية. فتبدأ بعض القصص ببدايات تأملية تلعب دورا «ميتسرديا» وتنخرط في الخطاب الواصف باعتبارها تعليقا مسبقا على الأحداث في قالب سردي، على غرار بداية قصة بعثرة:

«كم يبدو الأمر شاقا ومربكا، المكوث خارج مناطق الروح والوجدان. أن يتحول الجسد إلى كتلة من عظام ولحم وأنفاس متلاحقة». ولعل النص يتحول إلى خطاب ذاتي وإلى نوع من الخواطر والرسوم الذاتية: «لن أخبرك بأنك كنت خطئي وخطيئتي». «سأذكرك فقط… يا للبعثرة الصاخبة… كل هذا الضحك في داخلي يسخر مني…»

في هذا التوجه نفسه نحو خطاب الحياة والعاطفة، تفسح الكاتبة قصة دروب شائكة: «طرق الحياة متشعبة ودروبها محفوفة بالأشواك لكن حفيدي يظل وسيعبر كل السبل بأمان». هذا التوجه نحو الخواطر والتعاليق الذاتية يصبح خاصية لافتة من خصائص هذه القصص، فالكاتبة تجعل هذا الخطاب التأملي الوجودي يقتحم الخطاب السردي لأقاصيصها ويحوز مساحات مختلفة.

هذه البداية التأملية نفسها نسجلها في قصة «أحتاج إلى حضن»، التي تميل إلى تقنية الاسترجاع. وتبدأ بعض هذه القصص بتعليق أكثر وضوحا على القصة، أو العنوان، هروبا إلى صوت القارئ المفترض. على غرار بداية قصة «أيها الحب لم لا تدعني وشأني؟» التي تبدأ بالتعليق على العنوان: «غريب أمر هذه العنوان. أليس كذلك؟ ماذا سيعتقد القارئ وهو يقرأ عنوانا كهذا؟ هل سيعتبره مادة دسمة تستحق المتابعة، أم سيراه عنوانا سخيفا ليس جديرا بأن يوليه أدنى اهتمامه؟»،

وتميل بدايات قصص أخرى إلى التذكر وخطاب الذاكرة: «أتذكر كنت هنا وكانت هي كل الدنيا.. حبيبتي السمراء الغجرية. أهزوجة الصباح العذبة. ترنيمة المساء ورونقه.. كم كانت أحلامنا طفولية جدا».

هذه البداية تحمل معها صوت الذاكرة المهزومة صوت الزمن الجميل.. يمكن القول إن بدايات هذه المجموعة من القصص تبدو مختلفة نوعا ما، وتظهر فيها بين الشخصيات علاقات أخرى، ولكنها تظل مشدودة إلى الحياة وإلى الواقع وتظل كتابة مسكونة بالهواجس والمشاعر. وعلى العموم تحافظ مختلف هذه القصص على مناخاتها الاجتماعية وعلى أفقها النفسي الخائب. فالكاتبة تبدو منشغلة بكتابة التصدع العاطفي والاجتماعي، وهو ما تكشفه لحظات النهاية في أقاصيصها.

لحظة النهاية… لحظة التنوير أو التصدع: ما من شك في أن لحظة النهاية في القصة القصيرة تكتسي بعدا مهما. فهي لحظة التنوير والانكشاف. وهي اللحظة التي تغلق أبواب البنية القصصية وتؤجج المعنى. وهو ما نسجله في هذه المجموعة. ففي هذه اللحظة، وفي أغلب أقاصيصها يرفع الستار عن السعادة الوهمية وتنكشف الأقنعة. تنكشف الخيانة الزوجية، خيانة الزوج أو الزوجة على حد السواء. ففي امرأة الظل «كشفت لها مكالمة مريبة أسرارا كثيرة تجهلها لتكتشف أنها لم تكن غير امرأة الظل». وفي بعثرة «كانت كل الأمور توحي بالنهاية القاتمة… كانت كل الأمور توحي بنهاية فجة على قياس سعادتي المنفلتة الصاخبة» وفي نجم تعترف الزوجة اعترافا مدويا أثناء الخصومة «نجم ليس ابنك» وتجد نفسها أمام سؤال الابن: كان نجم يقف على قاب خطوة منها بعد أن خلص يده الصغيرة من يدها في حين غفلة ويسألها في قلق: /استفاقت من ذهولها وغيبوبتها تحت وطأة السؤال: ماما من يكون أبي؟ وفي قصة رجل لا يفهمها، تأتي النهاية بقرار الانفصال: لم يفته أيضا يبرم اتفاقية مع زينب بضرورة الانفصال حالما تقوم سالمة من غرفة العمليات. لم يحتمل أن يقضي بقية حياته مع امرأة برحم مبتور…

هذه النماذج من النهايات القصصية تتكرر وتتشابه وتنتمي إلى الحقل الاجتماعي نفسه، وتفصح عن الدلالات والتصدعات المتشابهة نفسها. فزهرة الظاهري ترسم مجتمعا تتصدع علاقاته العاطفية وتجمعه أقنعة سعادة زائفة سرعان ما تنكشف.

كاتب تونسي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي