السرد الكتابي في رواية «امرأة سوداء في باريس»

2023-06-14

عايدي علي جمعة

تقع رواية «امرأة سوداء في باريس» للكاتبة الفلسطينية الأردنية سناء أبو شرار في حوالي 400 صفحة، وتتشكل البنية الكبرى فيها من خلال وجود تافارا، الذي يبدي تفوقا ملحوظا في دراسته ويتزوج وهو طالب في المدرسة من زميلته الفاتنة كاميلي وينجب منها طفلين ويحصل على منحة لدراسة الطب في باريس، فيغادر قريته الافريقية الفقيرة، تاركا زوجته وولديه وأباه وأمه وإخوته، لكنه يظل هناك عشرة أعوام بلا زيارة واحدة لأسرته، مكتفيا بإرسال المال لهم كل شهر، لكن تحدث حرب أهلية طاحنة يقتل فيها أبوه وإخوته لكن بعد قتلهم لعدد من المهاجمين لقريتهم، ما يجعل هؤلاء يعلنون عزمهم قتل تافارا نفسه من أجل الثأر، وتموت أم تافارا بعد أن لدغتها عقرب وهي تفر مع كاميلي زوجة تافارا إلى المدينة التي سبقهما إليها ابنا تافارا بمساعدة أستاذه المخلص وبمساعدة الطبيب الشهير في المدينة، ومنها سافرا إليه في باريس، وتنجو كاميلي وتلحق بزوجها في باريس.

لكن الزوج المتفوق جدا في عمله في باريس يدخل ولديه مدرسة داخلية ويخبر زوجته بأنهما قد قتلا في الحرب الأهلية، ويغير اسمه واسم ولديه وزوجته إلى أسماء فرنسية، خوفا من مطاردة الموتورين له في باريس، ويبدو نفوره الشديد من زوجته الافريقية ويدخل في علاقة غرامية مع ممرضته سيلفيا، لكنه يكتشف خيانة سيلفيا له مع أحد أبناء جلدتها.

وينقل الدكتور تافارا ولديه إلى مدرسة داخلية في لندن خوفا من التقائهما بأمهما وينتقل هو نفسه للعمل في أحد مستشفيات لندن خوفا من مطاردة الموتورين له، لأنهم سألوا، عنه تاركا كاميلي وحدها في باريس لكنها تتجاوز تقوقعها الحزين على نفسها، وتندمج أكثر في الحياة الباريسية وتطور ذاتها وتشق طريقها بمفردها، لكن تافارا يصاب بمرض لعين فيعود لباريس وتطلب منه زوجته الطلاق، لكنها تتراجع عن ذلك حينما تعلم بمرضه فترفض التخلي عنه، وتكتشف أنه يكتب مذكراته في دفتر أسود فتكتب هي مذكراتها في دفتر أصفر، ويجيء الموتورون فيقتلون تافارا أمام عينيها وهو مريض وتعرف أن ولديها لم يقتلا، فتذهب إليهما في لندن وتقرر العودة إلى قريتها وتبني بيتا واسعا لها ومدرسة عصرية وتدرّس فيها ويجيء ابنها الأصغر للعمل معها، أما الأكبر فيظل في لندن، لكنه لا ينقطع عن زيارة قريته.

أصوات السرد

وتلفت تقنية السارد النظر بقوة في هذه الرواية، حيث جاء السارد فيها من خلال صوتين مختلفين: الصوت الأول هو صوت تافارا بطل الرواية، والصوت الثاني هو صوت كاميلي بطلتها. وقد جاء السرد بضمير المتكلم في الصوتين. ولا شك أن هناك منظما أعلى من الصوتين، هو الذي ينهض بعملية منحهما سلطة السرد، حيث تراوح البناء السردي فيها بين هذين الصوتين. وفي كل كتلة سردية نجد عنوانا في منتصف الصفحة الأول تافارا، وحينما تنتهي الكتلة السردية المخصصة له تأتي كاميلي، وهكذا حتى نهاية الرواية التي نجد آخر كتلة سردية فيها بعنوان ابنيهما تاكي وسيمو.

وقد ساعد ضمير المتكلم/أنا في حالته الفردية على الكشف بصورة كبيرة عما يعتمل في الذاتين الساردتين، وأظهر بوضوح شديد رؤية كل منهما الخاصة للحدث الواحد الذي يتعرضان له، وكشف بالتالي عن وجهة نظرهما تجاه بعضهما، وتجاه عالمهما وما فيه من أحداث، كما كان له دور كبير في هذه المونولوجات الداخلية الكثيرة التي رأيناها مبثوثة عبر الكتل السردية فيها، فكشف عن أزمات الشخصيتين الساردتين الداخلية، وجعل المتلقي يقرأ سرد أحدهما عن الحدث وفي ذهنه سرد الآخر عنه، وأدخل المتلقي في قلب السرد نفسه، وجعله يشعر بلذة المعرفة، ومنحه إحساسا بأنه يعرف أكثر مما تعرفه الذات الساردة نفسها، لأنه يعرف معلومات أكثر من خلال السارد الثاني. وقد ساعدت بنية السرد عن طريق الكتابة في منح القارئ لذة التلصص على خبايا نفس هذين الساردين، لأن كلا منهما ينفض نفسه على الورق، ويتمسك بأهداب الحياة، من خلال هذا السرد الكتابي، ويتوجه بالسرد إلى ذاته هو، فكل منهما يكتب نفسه على الورق، وفي ذهنه ـ على المستوى الظاهر ـ أن هذا الدفتر الذي يكتب فيه هو لنفسه وحدها، وليس للقراء، فلكل سارد دفتره الخاص به، تافارا له دفتر لونه داكن وكاميلي لها دفتر لونه أصفر.

وقد حمل لون كل دفتر منهما دلالة على مصير كل شخصية، فاللون الداكن تواءم مع مصير تافارا، حيث كان الرفض لمواقفه هو المهيمن، ولم يكن المرض العضال هو نصيبه في النهاية فقط، وإنما تلقى رصاصة في الرأس من مطارديه من أبناء وطنه، أما اللون الأصفر في دفتر كاميلي فقد جاء متوائما مع دلالة الشحوب الذي استمر معها في معظم الكتل السردية الخاصة بها. ومن هنا فقد رأينا وجهتي نظر متفاعلتين مع الأحداث خاصة بالبطلين، فتافارا ينقل الأحداث من وجهة نظره، وكاميلي تنقل الأحداث من وجهة نظرها، وكان لذلك دور في عدم سير الرواية في اتجاه واحد، وإنما كان هناك اتجاهان متوازيان من البداية وحتى النهاية. وكان لهذه التقنية الكتابية دور في استقطاب خصائص خاصة بالكتابة، مثل هيمنة ضمير المتكلم، والحضور الكبير للتعبيرات المجازية، والاهتمام بالصحة اللغوية. ويستطيع المتلقي أن يتلقى هذه الرواية بطريقة مختلفة، لأنه يستطيع أن يقرأ السرد الخاص بتافارا متصلا غير منقطع، وفي هذه الحالة سيتجاوز السرد الخاص بكاميلي، كما يستطيع أن يقرأ السرد الخاص بكاميلي متصلا غير منقطع، وفي هذه الحالة سيتجاوز السرد الخاص بتافارا، ومن الممكن أن يبدأ بما لم تبدأ به الرواية من سرد وهكذا. ولا شك في أن اختلاف طريقة القراءة سيؤدي حتما إلى اختلاف طريقة التلقي وما ينتج عنها من توالد دلالي ورمزي.

الشخصيات المحورية

وقد هيمنت شخصيتان محوريتان على هذه الرواية: شخصية تافارا وشخصية كاميلي، تبدو شخصية تافارا شخصية ثرية، لكنها محملة بالثقوب، فهو لديه شغف هائل بالمعرفة وتصميم لا يقاوم على التفوق، وقد حقق ما يحلم به من نجاح عظيم وتفوق باهر، حتى أصبح لاسمه العلمي رصيد عالمي كبير، لكنه في سبيل ذلك فقد المشاعر الملهمة والشغف بالحياة نفسها، وتسبب في أذى كبير لأقرب الناس إليه، زوجته وولديه، ومات وهو يشعر شعورا قويا بأنه قد شرب من الكأس نفسها الذي سقاه لعائلته الصغيرة، وكانت مرارته كبيرة حينما واجهه ولداه بما فعله بهما.

وجاءت اللغة في هذه الرواية لغة عربية فصحى، ليس فيها الكثير من الكلمات الأجنبية، سواء الافريقية أو الأوروبية، على الرغم من أن المكان ليس عربيا ولا الشخصيات، وإنما تدور أحداث الرواية في مجاهل افريقيا وفي باريس ولندن، كما جاء الحوار بين الشخصيات باللغة العربية الفصحى أيضا، وبطبيعة الحال فقد سّل الانزياح فيه حضورا أقل عن اللغة السردية واللغة الوصفية، وقد جاء كاشفا عن طبيعة كل شخصية ورؤيتها للعالم. ومن هنا فإن الحوار يظهر أحيانا في بعض كتل الرواية، فتطل الطريقة الدرامية في الكتابة. وقد ظهر التعدد المكاني في هذه الرواية لسناء أبو شرار، حيث وجدنا البيئة الافريقية والبيئة الأوروبية. وبطبيعة الحال فقد جذبت كل بيئة كتلا سردية متفاعلة مع طبيعتها، وما يمكن أن تتكشف عنه من أحداث تسهم طبيعة المكان في تشكيلها. أما عن البنية الزمنية في هذه الرواية فقد بدأت من النهاية تقريبا، ثم اعتمدت على عملية الارتداد الكبرى، حتى وصلت مرة أخرى إلى بداية السرد، متجاوزة إياه إلى النهاية، ومن هنا فإن البنية الدائرية تقريبا هي المهيمنة على السرد في هذه الرواية، وقد جاءت الكتل السردية من خلال هذه التقنية.

كما لمست هذه الرواية ألوانا مختلفة من الصراع، مثل الصراع مع الجهل والخرافة، فقد كانت المنطقة الافريقية ترزح تحت تاريخ كبير من الإيمان بالأرواح الشريرة، وقدرة السحر على تغيير مصير البشر، وكانت معرفة أم تافارا بهذه الحقيقة هي التي أنقذتها مع كاميلي من الاغتصاب والقتل على أيدي المطاردين لهما، حيث أوهمت من يطاردها بأنها ساحرة شريرة وكاميلي مساعدتها، وأن اللعنة ستحل فورا على من يؤذيهما. كما لمست الرواية بقوة عملية الصراع الطاحنة بين افريقيا من ناحية وأوروبا من ناحية أخرى، فبدا قلق العلاقة، وأطل تاريخ عميق من الاستغلال لثروات افريقيا، ما جعل المميزين من أبناء هذه القارة يضعون نصب أعينهم التفوق على الرجل الأبيض ومحاربته بسلاحه نفسه، وهو سلاح العلم والمعرفة.

كما سجل الصراع النفسي حضورا فائقا عبر الكتل السردية المختلفة، وقد أظهرت تقنية السرد الكتابي هذا الصراع بقوة، لأنه سرد يمنح السارد حرية كبيرة في نفض نفسه على الورق.

أكاديمي مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي