سيف نوح الخشبي والاستدعاء الأسطوري

2023-06-13

جاسم عاصي

عالج الشاعر جبار الكواز الواقع ومجرياته السلبية بشتى الأساليب والتوظيفات، لكن الأهم الذي يؤكد المعرفي في الصياغة، هو الميل إلى التاريخ، لاسيما الأُسطوري منه، وبذلك أُتيحت للكاتب فرصة التعامل مع هذا الضرب باجتهاد وروية. فمنهم من يستدعي الأُسطورة ويضعها في مركز النص والمحك لمفاصله، بما يُغني التوجه فنياً وموضوعياً، والآخر يستفيد من خصائص الأساطير، أو بشيء منها لكي يرشح معاني جديدة تحاور وتجادل الواقع، إذ تتبع النقد الموجه أُسطورياً لما هو حادث وجار، بمعنى تقريب الأحداث من بعضها وفق الدال والمدلول، وبذلك يُضفي جمالاً على النص.

والشعراء في مجال الشعر العربي كان توظيف الأسطورة شبيه بالإشارة، ثم تضميناً لأساطير وشخصيات وأحداث في التاريخ. فهي مصدر يساعد الشاعر على التخيّل الشعري والتأمل الفلسفي، أو كما قال إليوت، «إن هذا التوظيف بمثابة طريقة لإضفاء شكل ومغزى على البانوراما الهائلة من العبث والفوضى».

وكما رصدنا نصوص بعضهم، وجدنا أنهم يشتركون في ثيمة البحث عن الخلاص عبر مكونات الموروث، متخذين منه عبرة ودرساً فكرياً يعالج الواقع بكل تعقيداته. والشاعر جبار الكواز مال إلى قصة الطوفان، وركز على شخصية (نوح) حصراً باعتباره المخلص في التاريخين الأُسطوري والميثولوجي، ما أتاح له فرصة التعامل مع الشخصية، لا باعتبارها تُمثل المقدس فحسب، بل إنه رمز تاريخي يعمل على تحقيق الإصلاح مثله مثل معظم قادة الثورات في التاريخ. كما حدث لـ(أتونبشتم) في ملحمة جلجامش، وحصوله على الخلود الأبدي بسبب إنقاذه البشرية وصناعة الفلك.

يسلط الشاعر الضوء الشعري على فعالية شخصية (نوح) ما بعد الطوفان، متخذاً من الحدث رمزاً لحدث واقعي أحدث تأثيراً سلبياً على الواقع. وأخذه لفترة ما بعد انتهاء الطوفان، يعني مجريات الخلاص العام، لذا فحدة التناقض الذي حدث متمثلاً بالغياب المؤثر لشخصية (نوح) باعتباره مسؤولا عن تواصل الإصلاح. لكن في النص نرى أن الحلقة انفرطت من يده، ما يتكشف في النص عن تصاعد حدة التناقض وكثرة الأسئلة، فالشاعر أحال فكرة الطوفان في اتجاه ممارسة دلالات تخص التغيير في الواقع، فانتهاء الطوفان يعني تغير المعايير، وغياب (نوح) يعني ضياع الرمزي، حيث تكثر الأسئلة:

لم يكن نوح

معنا

حين هدأ الطوفان

كما أنه يؤكد ضياع الدليل المبشر بالوصول وإدراك اليابسة:

ولم تعد الحمامة

فقد سرقتها

ظلال شجرة الزيتون

وبهذا يحاول أن يراكم ما اعتور حدث الطوفان، بالاستعانة بالتاريخ كمؤشر على طرح صور الحقائق في أحداث الاحتلال، وفرض السلطة على الشعوب.. وهي مفردات ذاكرة لا تغفل مطبات التاريخ:

كان الغرباء ذوو العيون الزرق

والزنوج

وذوو اللحى والرايات

قد ملأوا شارع الموكب بأهازيجهم

وهتافاتهم

ودوي ديناصوراتهم

يسعون لمحو ظلالها

الحلة

القصيدة تميل إلى ربط فواصل التاريخ والبحث الدائم لجمع ما يمكن من تشكيل دلالات تطرح ما ألَمَ بالبشرية، بعد انتهاء الطوفان والتغيير المستعين بطوفان سابق، أي أن ما يطرح يكشف بالقناع وجهات النظر وتبلور الامتداد الزمني بين طوفانين، والتعبير الأدق في صورة نوح وهو يواجه ما يرى:

كان (نوح) شاهراً سيفه الخشبي

طاعنا الهواء به

تماماً كمروية «دون كيخوتة» والفروسية التي ما قتلت ذبابة. أما التعبير الأدق فهو كشف المستور المخبأ والمعلن. وهو ما خلقه (يأجوج ومأجوج):

بعد أن أصدرا

جريدة (الغياب في أناشيد العذاب)

في الباه

والشبق

والعشق

والهيام

بمعنى حلول الأفكار المتصلة بالخرافات والنوايا السلبية للحاجات الذاتية (الحاجات الجسدية). كما أنه يُعدد الفقدان المتواصل، والخسائر الدائمة:

ولم تكن ثمة آبار

فقد ازدردها

بئر ظامئ في معبد (آنو)

الضياع مرتبط بسلطة إله السماء (آنو) كذلك بالرموز الأُخرى ذات التأثير الشديد في تغيير بنية الواقع بعد الطوفان حد فقدان الملاح (نوح) وتماهي الحقيقة التاريخية في بئر الضياع:

ألف نوح

كان هنا

ولم يكن معنا نوح

تواصلت الصور التي تحاور كل ما من شأنه التعبير عن واقع ما بعد الطوفان:

لا أسد في بساتيننا

لا مزمار

ولا طبل

ولا أصناج

ولا دفق

ولا قيثارة

ولا الفرات الذي افترعه البداة

في عام الرمادة

فمن كان معنا

إذن؟!

سؤال مشحون بالمرارة التي لم تبح سوى مروية الطوفان، وفقدان الدليل الذي يصحح الأخطاء، لكن في صورة نوح الجديد ضاع أثر الطوفان وتأثيره. لقد عالج الشاعر أدق المجريات في هذه الاستعانة، ما بلور نصاً شعرياً التم على ذاته نسقاً وتعبيراً لغوياً كثير الاقتضاب والتكثيف.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي