دعوة للتخبّط في «متاهة الأوهام»: هذه هي الرواية… وهكذا يجب أن تُكتب!

2023-06-12

حسن داوود

في الفصل الثالث الأخير من رواية «متاهة الأوهام» اخترقت السياقَ السردي، المتشعب والمتراوح بين أحداث مختلفة وأساليب كتابية ونقدية متعدّدة، مقابلةٌ مع كاتبها محمد سعيد أحجيوج. في ما خصّني، كقارئ، عدت مرّات إلى مطلع المقابلة لأعرف إن كانت منشورة سابقا في صحيفة أو مجلّة، أو إن كانت كُتبت لتنشر في الكتاب. وجدت نفسي، وأنا أقرأ صفحات المقابلة الإحدى عشرة، متّفقا، بل مؤيّدا، لما ورد في إجابات الكاتب كلّها، كما بطريقتها التي بدت أقرب إلى بيان إبداعي ونقدي عن الرواية وكتابتها. ذاك أنها تدعو إلى تغيير النظر العادي والتقليدي، ليس إلى الكتابة الروائية وحدها، بل إلى تغيير مفاهيمنا تجاه الوعي الذي تأسّس فينا. ولنضف إلى ذلك ما يلازم المقابلة تلك من نبرة أكيدة وواثقة طالعة من معرفة تفصيلية وعميقة بفنّ الرواية.

هي أقرب إلى بيان تأسيسي سنجد مكمّلاته وحواشيه في الفصلين الأولين من الرواية، كما في الصفحات الختامية اللاحقة، لكن أكثر ما يلفت الانتباه هو أن الكاتب جعل نفسه موضوع الرواية وبطلها. أقصد بجعل بطله حاملا اسمه ذاته (محمد سعيد أحجيوج) كما في إيراد العناوين ذاتها لكتبه السابقة التي منها «ليل طنجة» و«كافكا في طنجة» و«أحجية إدمون عمران المالح». وأحجيوج الذي نقرأ في الرواية أنه اسم مستعار لشخص اسمه جواد الإدريسي، يسرع إلى قطع كل خيط يبدأ بغزْله. في الفصل الأول هو رجل فقد عمله بسبب إفلاس الشركة التي يعمل فيها، وكان عليه تبعا لذلك أن يهتم بالطفل، حيث عادت زوجته إلى مباشرة العمل لتحصيل جزء مما كان يجنيه هو. وفي أثناء إقامته البيتية راح يتلقى من هاتفه دعوات محيرة من صوت نسائي، لم يلبث أن تراجع مسرعا لتحل محلّه مطاردة رجل من المخابرات، أو من «مديرية مراقبة التراب الوطني» حسب الاسم الرسمي الداعي إلى التساؤل الساخر. ربما كانت تلك كوابيس تأتيه من نومه المختلط باليقظة، لكن لم تلبث الرواية أن جرت في مجرى آخر هو مطالبة رجل المخابرات له بشطب ما كان كتبه، رغم نجاحه وتفوّقه فيه، وتبديل أسلوبه لتحويل كتابته عن تعقيدها واستعصائها. ولدى رجل المخابرات هذا أفكار مقنعة ومعرفة بأي الروايات يمكن قراءتها وتسويقها. أما ما أجاب به رجلنا بطل الرواية، فيذهب في تلك المعرفة إلى أبعد مما تحمله الروايات العادية لدى تناولها صورة الأديب وأدبه. كما أن رجل المخابرات هذا يقترح عليه، أو يدفعه إلى كتابة صفحات من نوع السرد الأكثر إرضاء للقرّاء، وهذه نقرأها في الرواية بلون طباعي مختلف، وملأت صفحات عديدة دلالة على إدخال روايات في صلب رواية.

في انتقالاته تلك ينسينا أحجيوج ما كان سبق من حكايته. نظل، مع دخولنا في ما لم تعدّنا الفصول السابقة إلى ولوجه، متسائلين ماذا جرى للمرأة والطفل، وكيف طوى السرد اللاحق صفحتهما. ذاك يشبه أن يعاد بناء أساس جديد للرواية، بتجاهل الأساس السابق. وهذا يعاد من جديد، مرة بعد أخرى. أما الربط بين أجزاء ذاك الوجود المتقلّب للرجل الواحد، محمد سعيد أحجيوج، فمتروك تدبيره للقارئ وحده. لكن القارىء يبدو مصرّا على معرفة ماذا جرى للزوجة مع مديرها في العمل، كانت قد عادت إلى البيت باكية بعد أن تحرّش الرجل بها، لكنها ستختفي إثر ذلك، أو تُغيّب عن الرواية. متابعةُ مصائر الشخصيات قاعدة أساسية في الكتابة الروائية، وقد جازف غبريال غارسيا ماركيز، لضرورة الالتزام بها، بترك الطفلة الصغيرة في «مئة عام من العزلة» تطير مع ثياب الغسيل طيرانا بلا عودة. «لم أجد لها دورا في ما سيتلو من أحداث الرواية، ولهذا طيّرتها» أجاب ماركيز عند سؤاله عما يعنيه ذلك في واقعيته السحرية، ولنضف، بما يشبه إيراد قاعدة أخرى، أن الرواية تُتابَع من قارئها، كما من سامعها قبل شيوع القراءة، استجابة للصلة العاطفية الغامضة التي تربط السامع، ثم القارئ، بهؤلاء البشر الذين جعلتْهم الحكاية قريبين إليه، رواية أحجيوج لم تجد ذلك ضروريا. وها إن رجل المخابرات، الذي هو ناشر كتب في صفحات أخرى يذكّر الكاتب – البطل بما كان قد صرّح به بنفسه: «إنك لا تحاول كتابة رواية، بل تكتب عن الروائي الذي يكتب رواية، وإنك لا تكتب الرواية داخل الرواية، بل تكتب عن العوالم التي يخلقها الروائيّ في عقله». في عقله وحده، في الهواجس والكوابيس التي تتخالط داخل الرأس، بتأثير من عتمة غرف التحقيق والصعق بالكهرباء والتناوب السريع بين الاستفاقة والنوم الأقرب للغيبوبة، ثم هناك العقل وحده، اليقظ في تمام صحوه وهو يتحدث في المقابلة المذكور عنها أعلاه، عما ينبغي أن تكون عليه الكتابة المتحرّرة من كل قيد مجتمعي أو سياسي أو تقليدي.

متاهة الأوهام» للروائي المغربي محمد سعيد أحجيوج صدرت عن دار هاشيت – أنطوان في 124 صفحة- سنة 2023.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي