سيرة مارك أوجيه: البحث عن المدينة الضائعة

2023-06-07

محمد تركي الربيعو

يعدُّ الأنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه واحدا من الباحثين القلائل في حقله، الذين تُرجِم عدد من أعمالهم للعربية، ما أتاح لنا فرصة الاطلاع على بعض كتبه، وأذكر هنا بالأخص نصه الفريد حول «أنثروبولوجي في المترو». حاول أوجيه في هذا الكتاب قراءة علاقتنا بالماضي والحاضر، من خلال يومياته في محطات المترو. واستكمالا لهذا الاهتمام بنتاج هذا العالم، نعثر مؤخرا على ترجمة لأحد كتبه تحت عنوان «الأنثروبولوجيا والعالم الشامل» ترجمة رانيا الحسيني، المركز القومي للترجمة. وفي هذا الكتاب نطلع على سيرة أوجيه في عالم الأنثروبولوجيا منذ الخمسينيات إلى لحظة طباعة الكتاب بالفرنسية عام 2013. والطريف في هذا الكتاب، أنّ مؤلفه سيخبرنا عن تحولات شهدها هذا العالم البحثي، وأهمه انتقال اهتمام الدارسين من القبائل والمجتمعات الصغيرة أو البدائية إلى المجتمعات الحضرية، ففي هذا السياق، يرى أوجيه أنّ الملاحظة الأنثروبولوجية يجب أن تأخذ في الحسبان أنها باتت تعيش في عالم أوسع، وأنها في عصر الصورة والاتصالات، الذي أخذ يُظهِر أشكالاً جديدة من العلاقات الاجتماعية، ولذلك فإنّ الأنثروبولوجي اليوم محكوم عليه أن ينقل نظرته من زخم الزمن الرمزي إلى دراسة ما يدعوه بالعالم المنعزل (السوشيال ميديا). وربما في إشارة مارك أوجيه ما يتناقض مع بعض المحاولات العربية في هذا السياق، التي بدلا من دفعنا نحو الخوض في تفاصيل ومواضيع جديدة، فإذا بها تنحاز نحو البحث عن أبطال أنثروبولوجيين من الماضي، يمكن اقتباس مناهجهم للبحث في هذا العالم، بينما ما يفصلنا عن الواقع فعليا هو الشارع الذي يقف أمامنا أحيانا.

وبالعودة لأوجيه، فقد بدأ عمله في قارة افريقيا في أعقاب الحركات الاستقلالية، في الوقت الذي كانت فيه الأنثروبولوجيا الأكثر كلاسيكية تقدم أعمالا كبرى، مثل أعمال مارسيل موس وكلود ليفي شتراوس. ومما يذكره في هذا السياق أنه خلال الستينيات حاول كثير من اليساريين البحث ميدانيا في المجتمعات الصغيرة، إما لإثبات صحة أو عدم صحة النظرية الماركسية، وأيضا للتعبير عن رأيهم في ظروف التنمية الاقتصادية أو الدفاع عن مجتمعات في طريقها للاندثار. وخلال هذا الفترة أخذ يهتم بدراسة العلاقات النسبية والمصاهرة، في عدد من قبائل ساحل العاج، وكان يقتفي بذلك أثر كم كبير ممن اهتموا بهذا الجانب. لن يطيل أوجيه الوقوف أمام أطلال القبائل التي درسها، بل سرعان ما سنستقل معه المترو لنرى أنفسنا أمام المدن الأوروبية الجديدة. يقرر أوجيه الدفاع عن المدينة، وفق تعبير هنري لوفيفر، إذ يرى أنّ المشهد الحضري الحديث ينبع من مجهود مضاعف للتوفيق بين أزمنة الماضي المختلفة من ناحية، وبينها وبين الحاضر من ناحية أخرى. ونرى في هذا المشهد أيضاً المراكز التاريخية وقد تحوّلت تدريجيا إلى متاحف وأماكن لزيارة السائحين القادمين من بعيد. وينعكس النمو الحضري كما لو كان يسعى إلى تحويل المدينة إلى ضواحٍ، فمنطق المدينة الذي يقوم على إعادة تصميمها بناء على ضرورات السكن، أدى إلى اختفاء المدينة التاريخية؟ كما يلاحظ أوجيه في هذا السياق أنّ محاولة بعض المعماريين إضفاء سمة فريدة على المسكن، أخذ يتسبب في اختفاء كل مرجعية للسياق وللتاريخ، فمع هؤلاء المعماريين لم نعد قادرين أحيانا على تمييز الأزمنة التي عاشوا فيها، وعلى هذا صارت المدن تشبه متحفا غير منظم. هذا لا يعني، وفقا لأوجيه، أنّ ذكريات الطفولة هي التي ستختفي عن الأنظار، وإنما ما يقلقه في هذا السياق غياب الأحلام لدى مصممي المدن الحديثة. فهم لا يسعون سوى إلى تحويل كل شيء إلى مكان للسياح والاستهلاك، بينما تختفي ملامح الثقافة في هذه المدن، أو تصبح أيضا جزءا من عالم الاستهلاك الجديد. ولا يقتصر هذا التحول الحضري على صعيد العمارة، بل نرى أيضا أنّ هذا التحول ترافق في العقود القليلة الأخيرة مع ظهور علاقات وصداقات اجتماعية جديدة (شبكات التواصل). وفي هذا العلاقات نعثر على مجرد وعد بعلاقة، ووعد بسعادة ممكنة، وعلى آلاف الفرسان الذين يهيمون على وجوههم في مغامرات دون هدف صريح.

كيف نستعيد المدينة الضائعة؟

في هذا السياق يطرح أوجيه سؤالا مهماً: هل من الممكن إعادة التفكير في المدينة ككل؟ ومن ضمن إجاباته يأتي على ذكر بعض المدن المتوسطة في شمال إيطاليا، التي تمتاز بأن الحياة وسطها كثيفة، والميادين العامة هي أماكن اللقاءات، ينتقل الناس بالدراجة، ما يضمن شعور القاطنين فيها بالسعادة. فالعلاقات الاجتماعية الواقعية كما يراها أوجيه هي التي يجب الدفاع عنها لإعادة تشكيل المدينة. كما يعتقد أنّ كل مشروع مفصل يتعلق بالمدينة يستوجب أيضا اللجوء للفن، فهو الوحيد الذي يضمن هذه الأيام إمكانية تخيل المدينة والعلاقات فيها. كما يولي للتصميم المعماري جانبا مهما، فمثلا نراه يركز على فكرة ضرورة وجود المقاهي في الشوارع، وأيضا يدعو إلى أن يُعاد النظر في موضوع العمارة (السكن الاجتماعي) داخل المدن التقليدية. فليس من واجب هذه الأماكن أن تتحول فقط إلى متاحف وأماكن سياحية، بل يجب أن تبقى مليئة بالسكان القاطنين، الذين يشكّلون ذاكرة لهذه الأماكن ويضفون حياة جديدة.

طقوس المدينة الضائعة

لكن ماذا عن طقوس هذه المدن، وهل إعادة الاهتمام بالطقوسي، جزء من تخيل المدينة. في هذا السياق، يرى أوجيه أنّ كل ممارسة طقسية تنبع من علاقة مزدوجة بالزمن. فهي تسعى إلى التذكير بالماضي، وفي الوقت نفسه إلى الانفتاح على المستقبل. هنا نراه يخالف من يرى في وجود الطقوس دليلا على التشبّث بالماضي، وعلى وجود مجتمعات بلا تاريخ، وإنما لا يمكن، في رأيه، أن يتشكّل أي إحساس بواقع جديد دونها، فالهدف من الطقوس، البداية وليس التجديد أو التقليد بالضرورة. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أنّ هذه الطقوس لا يعني بها أوجيه الطقوس الدينية بالضرورة، بل يرى مثلا أنّ تجمعات الشباب حول الفرق الموسيقية تشكّل طقسا من الطقوس الحديثة. إذ نلاحظ الجمهور وهو يكرر حركات الفرقة والجمل التي يذكرونها، والإعادة لا تعني تكرارا بالضرورة، بل لحظة اتحاد يشعر بها الجميع، وتكون معاني الكلمات أقل أهمية من الإدراك الواثق لحركة انتماء ولا شيء آخر، وزمن وجهة النظر هذه، يكون الفنانون مع النشاط الطقسي والمستقبل.

كاتب سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي